وماذا بعد کورونا «من السادة ومن العبيد؟!»
شهد العالم عبر تاريخه الطويل العديد من الأحداث والأزمات تمثلت في الحروب والكوارث والأوبئة وغيرها، منها الحرب العالمية الأولى والثانية وانتشار أوبئة الحصبة والجدري والتيفود والطاعون وسارس وغيرهم، إلا أن أيًا من هذه الأحداث أو غيرها لم تتوقف على إثره كل مناحي الحياة مثلما يحدث الآن بسبب وباء کورونا 19-Covid، الذي وضع النظام العالمي أمام اختبار صعب سارعت كل دولة فيه إلى تحصين نفسها؛ فأقامت الموانع والحواجز مع جيرانها، وأوقفت المدارس والجامعات والمطارات والسياحة والبورصات وكافة الأنشطة، كما أغلقت الأماكن المقدسة ودور العبادة والمتاحف والمعارض والمتاجر والبارات والملاهي وحتى صالات القمار وغيرها، الكل على حد سواء، والتزم الناس البيوت خوفًا وهلعًا أو جبرًا وقصرًا.
وأمام هذا الكائن الصغير الذي لا يرى بالعين
المجردة شُلت الحياة وعجزت أمامه قوى ظنناها كبرى وظنت نفسها عظمى بما وصلت إليه من
تقدم علمی وتكنولوجي، بل إنها صارت مذعورة وعاجزة ومرعوبة شأنها شأن الضعفاء والفقراء
والكسالى والأغبياء الذين اختاروا من قديم أن يكونوا دائمًا قابعين في صفوف المتفرجين
وأن يعيشوا عالة على منجزات وجهود الآخرين؛ فرئيس فرنسا، ورئيس أمريكا، ورئيس وزراء
بريطانيا، ورئيس وزراء إيطاليا، ومستشارة ألمانيا وغيرهم فقدوا توازنهم وظهر جليًا
خوفهم وذعرهم فراحوا ينبهون شعوبهم بالاستعداد للرحيل أو فقد من يحبون.
وفي ظل هذه الأزمة وضع الكل يده على قلبه
وصوب فكره وعقله ونظره نحو الجامعات والأكاديميات ومراكز البحوث العلمية ينتظر دواء
للقضاء على الداء وكشف البلاء عن العباد في سائر البلاد.
وفي هذه الأزمة وكل أزمة غالبًا ما ينقسم
العالم إلى فريقين:
الأول يتكون من مجموعة الدول والشعوب الذين
يرون في أنفسهم أنهم من يستحقون الحياة؛ فهم مَن يمتلكون القوة والثروة وأدوات البحث
العلمي والتقدم التكنولوجي، ومن ثم فمن حقهم أن يقودوا العالم بل ويسودوه، وعليه راح
علماؤهم في إطار هذه الأزمة يسابقون الزمن في البحث والتجريب للوصول إلى دواء لوقف
البلاء وانتشار الوباء، وبالتبعية جنى الأموال وتحقيق الثروات واستعباد الأغبياء والكسالى
والضعفاء، الذين يرونهم في كثير من الأحيان مخلوقات لا تستحق الحياة إلا لخدمتهم والعيش
في تبعيتهم.
أما الفريق الآخر فيتمثل في تلك الدول التي
ترسّخ في عقول ووجدان شعوبها عقدة الدونية أو العنترية فارتضوا لأنفسهم أن يكونوا دائمًا
في مؤخرة الصفوف يجلسون القرفصاء في انتظار أن يأتيهم الدواء، إما من «العبيد» لمن
تعتريهم العنترية، أو من «الأسياد» لمن تسيطر على عقولهم وتفكيرهم الدونية.
لقد ذكرني هذا الوضع بواقعة حدثت معي في
النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت أعمل محاضرًا خارج مصر، والواقع أن
مضمون هذه الواقعة ومغزاها لا يتوقف عند دولة بعينها وإنما يمتد إلى دول عديدة من دول
العالم الثالث الغنية التي يأتي اقتصادها في معظمه من تحت الأرض، وتتمثل هذه الواقعة
في أنني أثناء إلقائي أحد الدروس لاحظت أن هناك طالبين في الصف الأخير منصرفين عن الشرح
ومنهمكين في حديث جانبي، ومن ثم توقفت ولفت نظرهما وعاتبتهما، فرد أحدهما على قائلا:
«إشبك أنت يا أستاذ، ما في شيء، كنت فقط أحكي لصديقي عن سياراتي الجديدة الفريدة!،
والله يا أستاذ سيارة مرّة حلوة!» فقلت له: «اهتم بتعليمك وفكّر في أن مَن صنع لك هذه
السيارة لا يزيد عنك شيئًا إلا في العلم!!! واسأل نفسك أنت وغيرك لماذا لا يكون لدينا
جيل من الصناع مثل هؤلاء فهم ليسوا بأفضل منا؟!!!».
وكان الرد المفزع أنه قال «وماذا يفعل العبيد
في اليابان وألمانيا وغيرهم من الدول، ليش أتعب نفسي!!!، لدينا من العبيد الكثيرين
في كل أنحاء الأرض يخدموننا؛ فيصنعون لنا الدواء والغذاء والكساء والسيارات والطائرات
وغيرها».
كادت قلوبنا تنخلع من صدورنا ونحن نسمع
ونرى أقدس مقدساتنا قد خلت من الزائرين والمصلين والطائفين والركع السجود بسبب هذه
الأزمة، ولكن غدًا إن شاء الله تمر الأزمة وتنقشع الغمة، وتعود الحياة إلى ما كانت
عليه وأفضل، ولكن ستظل هناك أسئلة تطاردنا والإجابة عنها تؤرق حياتنا، منها: هل ستخرجنا
هذه الأزمة من غفلتنا؟ هل ستجعلنا نتخلى عن سلوكياتنا السيئة التي توارثناها مرات باسم
الأصالة، أو التي استقبلناها مرات باسم الحداثة؟!! وهل آن الأوان أن تختفي من قواميس
حياتنا قضايا مثل القبلية والدونية والعنترية وغيرها بعد أن دمرت دولًا وشعوبًا؟!!
وهل لنا أن نستوعب الدرس ونتوقف عن الفهم الضحل لقضية السادة والعبيد ونقدر قيمة العلم
والعلماء فى تحقيق التحرر والسيادة الحقيقية في كل أمور الحياة حتى لا نجلس قرفصاءً
كما هو حالنا الآن ضعفاء ننتظر الدواء والكساء والغذاء من إبداع وصنع الآخرين؟
هذا ما ستسفر وتجيب عنه الأيام القادمة.
مع التمنيات والدعاء لوطننا العربي الكبير
بالاستقرار والتقدم والازدهار
د. الهلالى الشربينى
* أستاذ تخطيط التعليم بجامعة المنصورة، ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق