تلميذي.. مريض بالقلب!!
الإثنين 17/يوليو/2017 - 10:47 ص
"سلمان" طفل هادئ الطباع، لا تظهر عليه علامات الشغب أو الشقاوة، مِثل كثير من أقرانه، ودائماً ما يتحلي بالمظهر الأنيق، وكنت أُلاحظ كثرة غياب سلمان عن المدرسة، فأجد مقعده داخل الفصل فارغاً معظم أيام الأسبوع، حتى أصبح اسمه يتصدر أسماء الغائبين يومياً عن الحضور المدرسي، مما دفعني بدوري كمُعلم أن أسأل والدته عن سر شبه الغياب الدائم، لطفلها، وهو لا يزال في الصف الثاني الإبتدائي..
وذات مرة التقيت والدة سلمان داخل الحرم المدرسي، وسألتني عن مستوى طفلها العلمي، رغم أنها تعي جيداً أن كثرة انقطاعه عن المدرسة، آثَر سلبياً على تحصيله للمعلومات، وأفقده القدرة على التفوق، لعدم تلقِيه مُعظم الدروس مثل زملائه المنتظمين في حضورهم للمدرسة..
وعندما صارحت الأُم بذلك، بدَت الأم على حالة من الحزن والقلق الشديدين، وأخبرتني بأن فلذة كبدها يغيب مُضطراً عن مدرسته وزملائه، لأنه يُعاني من أمراض القلب، وقد أجرى عملية قلب مفتوح منذ فترة قليلة، رغم أن عمره لا يتعدى السبع سنوات.. بل ربما أنه لم يحضر للمدرسة طوال العام الدراسي الماضي، بسبب معاناته مع أوجاع المرض الذي اعتدى على قلبه، غير آسفة على ما فاته من تعليم، بقدر ما شعرت به الأسرة من ارتياح وطمأنينة أن كُتِبَ لنجلهم عمر جديد، وما شغلهم سوى سلامته.. وسعادته!!
وبعد حديث الأم عن قُرة عينها، قُمت وتوجهت للفصل وأوصيت زملاء سلمان بالفصل، بأن يُعاملوه بالحُسني، ولم أُخبرهم عن ظروف مرضه، حتى لا أجرح مشاعره، فيشعر بنقص أو يُصاب بحزن، وكنت أُوصي التلاميذ محذراً: "يا أولادي.. لا تمزحوا مع سلمان بأيديكم، ولا تستغلوا هدوءه فتضايقوه، فتثيروا غضبه"، وكنت أَنصح سلمان: "يا بُني.. لا تسبق زملائك بالخروج من باب الفصل، ولا تكُن في مُقدمتهم، إذا ما دقَ جرس الفسحة أو جرس الانصراف، فيتدافعوا عليك جماعات ومجموعات، فيدهسوك أو يُوكزوك بأيديهم وأرجلهم في زحمة الخروج بلا قصد، فيُصيبك الأذي"، كنت في حالة عطف وشفقة من لعنات مرض، يضجر منه الكبير، فما بالكم وقد أصاب طفل صغير..
وذات مرة ، وبينما أن داخل فصلي، وأشرح درسي، فإذا بباب الفصل يُفتح فجأة وبقوة، ويدخل سلمان، حاملاً حقيبته المدرسية الثقيلة على ظهره، وهو في حال من الإعياء، ويمسك قلبه المريض بيديه، وكان يأخذ أنفاساً طويلة من الشهيق والزفير، ويظهر عليه آثار جهد ولغوب..
بادرت سلمان بحديثي "إهدئ يا بُني، واجلس في مقعدك، ثم أخبرني ماذا بك؟!"، وبعدما هَدَأ سلمان أخبرني بأنه ظل يجري، بعدما دخل من بوابة المدرسة، حتي لا يمسك به مدير المدرسة، الذي كان يُلاحقه ويُطارده بخطواته السريعة وصوته الصارخ، ليُخوفه ويقذف بالرعب في قلبه العليل، فتُصيبه الرهبة والفزع، فلا يجرؤ على التأخير عن الطابور المدرسي مرة أخرى!!
رَبتت على كتف سلمان، وجعلت ابتسم في وجهه الذي أصابه العَرق والخوف الدفين، ورأيته يحاول أن يصطنع الابتسامة، حياءً وحرجاً من ضحكات زملائه عليه.. كانت عيناي تحرُس سلمان دائماً، مِن مزاح مَن يجلسون بجواره يميناً ويساراً، وكنت اُراقبه فاستحسه فاقد للتركيز، شارد الذهن والفِكر، وقد حوَله المرض إلى شخص هائم، شِبه نائم، كأنه في حالة سُكر وخمول، وربما كان سبب تلك الحالة التي هو عليها من التأثير الشرس للمرض وجُرعات الدواء الأليم، ولذا كنت أنهر من يحاول استفزازه، مستغلاً سكونه ومسالمته وقلة عافيته..
وعندما كنت أسمع " كُحة " سلمان الشديدة، كنت أتنهد حزيناً، من المرض الذي يُلاحقه ويتشبث بقلب ذلك الطفل الصغير، الذي يعيش مرحلة مرضية في سن مبكرة، وقد حُرِم من شقاوة الطفولة أو اللعب مع صُحبته، أو كثرة الضحك إلا بحذر!!..
كنت مشغولاً آسفاً على قلب الطفل، الذي لا يتحمل جهداً ولا جرياً، فيكفيه ما به من مرض ووهن جعلاه صاحب هموم مزمنة، وأدوية وجلسات علاج ليلاً ونهاراً، فكنت عندما أُبصره وهو يكُح، أُشاهده يفتح فمه على آخره، ويمسك قلبه وصدره بيديه الصغيرتين، حتى أنني كنت أشعر بأن روحه قد وصلت إلى حلقومه، وأوشكت أن تفيض لبارئها، ورغم آلامه، كنت أجده مُبتسماً، يحمد الله، عندما أتحدث إليه وأدعو له أو أُواسيه ببسيط الكلمات التي تُفرحه، فكنت أفرح لفَرَحه، ذلك المسكين الذي لم يفقده مرضه بشاشة وجهه..
كنت مُندهشاً من إدارة المدرسة، التي تستعين بطبيب مسالك بولية، بعد بلوغه سن المعاش ، ليُتابع الصحة العامة للتلاميذ، ولكن كيف له أن يتابع تلميذاً مثل سلمان، يعاني أمراض القلب، ويحتاج لمتخصص ماهر كي يُتابعه..
وكان عجبي أكبر أن مثل هذا الطفل المريض، يُفترض أنه حالة مرضية خاصة، أي لا بُد له من مُرافق " كمُمرض مثلاً"، ليُتابع حالته الصحية جيداً، إذ ربما تُداهمه أي أزمة قلبية مُفاجئة، ثم لم يكن برفقة سلمان هاتف محمول للاتصال بأسرته إذا شعر بأية وعكات صحية، وكنت أود أن يوضع في فصل خاص به، بعيداً عن المشاغبين وذوي الصرخات العالية، حتى يتوفر له بيئة من الهدوء والراحة..
كان عجبي أكبر، من تكليف وزارة الصحة لممرضة بالتواجد الدائم داخل المدرسة، لتُتابع صحة التلاميذ، ولم يكن لدى هذه المُمرضة، أي فتاوي علاجية للتلاميذ المرضى، سوى "النُصح بالإفطار، دون فحصها الجيد للمريض، وكيف لها أن تفحصهم أصلاً، وهي ليست طبيبة، ولذا لم يكن لها أن تُتابع قلب سلمان المريض، إلا أنني وجدت نفسي أتحدث عن المستحيل في وطن غلبت فوضاه على أصوله!!..
مسكين قلب سلمان، فلقد أصابه البأس واليأس، ولعل ما به من مرض، يحمل أوجاعه وآهاته قريباً، ويرحل من قلب الصغير، فيموت المرض، ويتعافي سلمان، ويسعد قلبُه وقلب والدته..