دعاء محمود تكتب ..(الغرفة 508)
قاربت الساعة الثالثة فجراً و أنا أنتظر
و أخيراً دلف الممرض للغرفة ليهمس بصوت كالفحيح أن الدواء غير متوفر بالمشفي ..
- ماذا تقول ؟؟! ستتركه يعاني من الحمي؟ ..نحن بالمشفي بالله عليك .
حين طالعتني عيناه اللامبالية أدركت الحقيقة التي حاولت ألا أراها منذ أصبحت المشفى داري...
حقيقة أن ما يحدث أمام هؤلاء القوم أصبح مكرر لدرجة الملل...
- يمكنني التصرف لا تقلقي ..
غاب لبرهة ثم عاد كاشفا عن ابتسامة صفراء حاملا الدواء قائلا :الغرفة رقم 508 لديها الدواء ..يمكنكم رده إليهم حين يتوفر لديكم ..
غمغمت بالشكر و أنا أشعر بمزيج من الغضب و الإحباط.
و في اليوم التالي ذهبت للغرفة 508 لرد ما اقترضناه بالأمس...
نقرت الباب بتردد لم أكن بحالة جيدة و لا أصحاب الحجرة بالتأكيد...
انزلق الباب بخفة لتطالعني امرأة منتقبة ..
لم أكن أبدا من هواة المنتقبات ..حتي رأيت عينيها..
شيء فيها جعلني أظل صامتة...مزيج من الحزن و السعادة ..القلق و الأمل...مزيج غريب حقا..
اخيرا بدأت أتكلم فخرج صوتي متحشرجا لطول صمتي ..
عبرت لها عن جزيل شكري بكلمات مقتضبة و رددت لها الدواء ..
فاجئتني بضحكة طويلة ..كانت كتغريدة عصفور ...
و قالت و لم العجلة أمامنا كل الوقت هنا ..أنت جديدة هنا أليس كذلك؟
أومأت برأسي بالإيجاب..
- ما رأيك أن نحتسي الشاي سويا ..
أرتبكت بشدة و أخبرتها بضرورة عودتي ..و أنسحبت في هدوء ..كان هذا أول لقاء لي بأميرة .....
(2)
في اليوم التالي سمعت قرعا خفيفا...فتحت الباب لأجد عينيها الضاحكتان و بين كفيها كوب من الشاي ..
-صباح الخير..الشاي الذي رفضتيه بالأمس ..
كانت تضحك برقة..
فكرت ما بال هذه المرأة...ألا تدرك فداحة الموقف..كل المقيمين في هذا الطابق يعانون من مرارة نفس الكأس ...
ابتسامة باهتة علت وجهي و أنا أمد يدي لاتناول الكوب ..ابعدته بخفة و هي تواصل تغريدها من وراء النقاب ..و هي تقول ..لا ..نشرب سويا ..لا أستطيع ترك مصطفى وحده كما تعلمين...
في الواقع انا لا أعلم شيئا و لكن استنتجت انه المريض الذي هي برفقته مثلي ..
اعتذرت منها بأني لن أستطيع الحضور ..
و توقعت أن تتضايق و تنصرف ..
حسنا إليك الشاي و لكن لنا مرة أخري بالتأكيد ..و انصرفت ..
مر أسبوع ...
نسيتها و انشغلت في غمرة ما انا فيه ..
ضاقت نفسي فخرجت من الغرفة أجول في طرقات المشفي الخاوية في ذلك الوقت المتأخر من الليل ....
شعور بالبرد و المرار يعتصر صدري ...
انتبهت لصوت عجل خفيف يدور بخلفي ..
افسحت الطريق تلقائيا لعله مريض ينقلونه ..
التفت لتطالعني عيناها الضاحكة ..
-ههههه لن تفلتي منا...
لم ارد ..كانت عيناي مسمرتين علي الكرسي المتحرك الذي تدفعه ...لم اكن أعلم أن مصطفى طفل صغير ..
نفس العينان الضاحكتان و لكن ارهقهما المرض بشدة ..
تابعت هي بمرح ..انظر يا مصطفى هذه طنط التي حدثتك عنها ..ما رأيك ؟؟..
يبتسم الصغير بحنان اذهلني و يوميء برأسه الخاوي من الشعر إلي...
ابتسمت للصبي كما لم ابتسم منذ شهور ..
و التقطت كفه الصغير و قبلتها ..بلا كلام ..
حقا لم أكن قادرة علي النطق ..
تجمعت الدموع بمقلتي فاستدرت بسرعة مغمغمة ..
يجب ان اذهب...سأراكم في الجوار بإذن الله ..
(3)
في اليوم التالي استأذنت في الذهاب للغرفة 508 لاحتسي الشاي مع أميرة و مصطفى...
الغرفة أصغر من غرفتنا بها فراش واحد و يحيط الفراش أوراق ملونة مليئة بالدعوات لمصطفى و أمنيات الشفاء ..بالون كبير ملون يتراقص مربوطا بطرف الفراش..
لم أنس ان احضر لعبة لمصطفى...فكرت بسيارة ريموت كنترول قد تكون سهلة ليلهو بها من مكانه ..
رفعت أميرة نقابها لأرى وجهها لأول مرة...فاتنة هي كعينيها ...بشرتها بيضاء مشربة بحمرة خفيفة ..عيناها الضاحكتان فجأة رأيتهم شديدي الإرهاق...كانت جميلة قلبا و قالبا ..
ابتسمت لتحديقي بها و ما لبثت ابتسامتها ان تحولت لتغريدة صغيرة كعادتها ..
خجلت و ضحكت مثلها...اخبرتني انها ارتدت النقاب أملا في شفاء مصطفى..
سارعت بفك الاربطة عن الهدية و مصطفى هاديء غير متحمس...
رآها و ابتسم بنفس الحنان...
غريب أمر ابتسامته حقا ..
صاحت اميرة بمرح : يالها من سيارة ..انظر مصطفى إنها زرقاء ..
يوميء مصطفى بابتسامته ..و يلتفت الي. .
و لأول مرة اسمع صوته : أحب اللون الأزرق
سعدت كثيرا هذه الليلة ..احتسينا الشاي و عرفت منها ان الصغير مصطفى ذي التسع سنوات يتعالج من المرض الخبيث منذ سنتين ..
و هي وحيدة بعد أن تخلي زوجها عنها و تزوج بأخرى و يأتي من حين لآخر لزيارة مصطفى و هي تستقبله لأجل عيون مصطفى علي حد قولها ..
تكررت لقائاتي و أميرة كثيرا في الأسابيع التالية ..
في ليلة رأس السنة خرج جميع المرضي و مرافقيهم لبهو الطابق للاحتفال و احضروا الحلوي و العصائر..
و تزينت المشفي الكئيبة بالبالونات و الورق اللامع ..
جلست في ركن كعادتي ..و خرج العديد من المرضي منهم من يرتدي الكاب لإخفاء رأسه و أكثرهم غدا غير مهتم ..
كنت اعرفهم جميعا ..بعد فترة تشعر بأنهم أهلك بطريقة ما ..
جاء مصطفى و اميرة ليتخذوا مكانهم بجواري ..أثناء تقطيع الكعكة ..جذب مصطفى كمي و اخبرني همسا بأنه يرغب في أخد قطعة الشيكولاتة الصغيرة التي تزين الكعكة...كنت شديدة السعادة و انا انتزعها كفارس منتصر و أقول للجميع إنها لمصطفى ...
كان فخورا سعيدا و هو يقضمها برفق و يبتسم لي ابتسامته التي تأسر روحي ..
مضت أيام و أيام ..كنت قد توقفت عن العد ..و لم أعد أعلم في أي يوم أنا و ما تاريخه ..يضنيني بعد صغاري و يعذبني أكثر رؤيتهم من خلال شاشة اللاب توب...
جلست بجوار النافذة المغلقة انظر لمدخل المشفي و أفكر في نعم الله التي لا يراها البشر ..
ها أناأجلس مكاني و أتمني لو أتنشق نسمه هواء طبيعية واحدة ..
نقرة على الباب ..يدلف الممرض سريعا و يطلبني للخارج ..
و يقول : ارجوك ساعدينا و اطلبي من اميرة ان تسمح لنا باعطاء مصطفى الدواء...
بنفس الوقت سمعت صوت صراخ و نشيج يأتي من غرفة مصطفى..لم أدعه ينهي كلامه و هرعت الي الغرفة المفتوحة ..
ليعتصر قلبي مشهد أميرة و هي متكورة في ركن الغرفة تحمل مصطفى بين زراعيها و تحتضنه ووجها الرقيق مبلل بالدموع و تتنفس بصعوبة و مصطفى يصرخ بصوت يمزق نياط القلب : لا تتركيني لهم يا ماما..ماما..ماما ..
و هي تبكي و تقول بصوت متقطع : حاضر حبيبي ..سأحميك يا صغيري ..
نظر إلى الممرض نظرة ذات مغزي..وجدني غارقة في دموعي ..همس من بين أسنانه : ساعدينا من فضلك ..
انتزعت نفسي مما أنا فيه و تقدمت نحو أميرة و مصطفى و طوقتهم بزراعي لاحتضنهم سويا ..بدأت أميرة بالعودة لوعيها رويدا رويدا ..
أما مصطفى فظل ينشج و يردد ماما ..ماما ..
قبلت رأسه من بين دموعي ..و سألته أترضي بأن احملك عن ماما يا مصطفى...أومأ برأسه بضعف فحملته و أنا أشعر بأني أكبر الخائنين ..حملته و سلمته للممرضين ليبدأ بالصراخ من جديد و ذهبت لأحتضن أميرة مرددة سامحيني ..لابد أن يأخذ العلاج في موعده ..اومأت برأسها و هي تبكي بصمت حتي تبلل حجابها بالكامل ..
مرت أيام أخري و بدأ مصطفى بالتحسن الملموس و أخبر الطبيب أميرة أنهم قد يستطيعون العودة للمنزل قريبا ..و بعدها يبدأون خطة علاج جديدة ..
في المساء ذهبت لمصطفى و أميرة..بدأت بإعداد الشاي حال أن رأتني..
كانت ساهمة حزينة ليس كعادتها ..
سألتها بحذر عما بها ..
أجابتني بسؤال قلق ..
ألك في تفسير الأحلام؟
تفرست في وجهها القلق ..و أجبتها بخفوت أن قليلا ..
قالت : مصطفى رأي بالأمس أسدا يصرعه في المنام و صحا من النوم فزعا ..
فهل تعرفين تفسير ؟
ابتلعت ريقي بصعوبة و انا اغتصب ضحكة ..
و قلت دعك من الأحلام ..مصطفى في تحسن و انت تعلمين..
اعتدل مصطفى في فراشه و لاحت منه نظرة لي..
نظرة اخترقت معدتي كسهم حارق..
شعرت بوعكة شديدة و مفاجئة..و استأذنت اميرة في العودة للغرفة لآخذ مسكن و أنام قليلا ..
في الصباح سمعت خمشا في الباب و نشيجا متقطع..نهضت وجلة و فتحت لتسقط أميرة بين ذراعي و تردد بأنفاس متقطعة. .
مات مصطفى ..ابنييييييييي ..و اخذت تردد بصوت يملاؤه الألم ..انا لله وانا إليه راجعون اللهم اجرني في مصيبتي و اخلفني خيرا منها...
بدأ قاطنو الطابق بالتجمع ..و انا أحاول ان اتمالك نفسي...و اقول من بين أنفاسي ..اهدئي أميرة لعله فقد الوعي...
اتسعت عيناها و تطوحت في الهواء تشير نحو الغرفة و تردد بصوت مبحوح..مصطفى ليس هناك ..لم يعد هناك.
حضر العديد من الأطباء و دخلت الغرفة معها..لأجد الصغير الممدد في الفراش بلا حراك ...بلا روح ..
لم يبق إلا حنان الابتسامة...
و إلي الآن أحمل معي أميرة و مصطفى في كل أسفاري