النملة النشيطة والتخطيط الاستراتيجي وجودة الأداء
كانت (النملة) تصل إلى مقر عملها كل صباح لتبدأ العمل بهمة ونشاط
دون إضاعة للوقت، وكانت سعيدة لأنها تقوم بواجباتها
على أكمل وجه من تلقاء نفسها ، يدفعها إلى ذلك حبها للعمل ثم للمكان الذي تعمل به وتشعر فيه بالراحة .
كان رئيسها (الأسد) يراها تعمل بكل هذا
النشاط دون إشراف أو مراقبة من أحد، لكنه فكر طويلا وقال : إذا كانت النملة تستطيع
أن تعمل بكل هذه الحيوية ، وأن تنتج بكل هذا الزخم دون إشراف أو مراقبة لضمان ((الجودة))،
فمن المؤكد أن إنتاجها سيتضاعف كثيرا لو هناك من يراقبها، فقرر أن يعين لها مراقبا
، ووقع اختياره على (عصفور) ذي شهرة في كتابة التقارير ومتابعتها ، ووافق (العصفور)
على القيام بهذه المهمة بعد أن أغراه (الأسد) وقدم له راتبا مجزيا .
تسلم (العصفور ) مهام عمله وكان أول قرار
يتخذه هو تقييد ترقياتها بزيادة الشروط والضوابط التي تعوقها عن الترقية للدرجة المالية
الأعلي , مع وضع نظام صارم للحضور والانصراف، وضرورة تواجدها بعدد ساعات محددة دون
النظر للمهام الفعلية المطلوبة منها ، ثم شعر
بحاجته إلى سكرتير يساعده , فعين (عنكبوتا) كي يقوم بالمرور يوميا علي النملة للتأكد
من تواجدها ، وأشياء أخرى هي من طبيعة عمل العصافير.
كان (الأسد) سعيدا بالتقارير التي أخذ يرفعها
له (العصفور) عن سير العمل، فطلب منه أن يُعِدَّ له رسوما توضيحية تبين معدلات الإنتاج
والجودة والميزانيات ، وتحليل أوضاع السوق واتجاهاته لاستخدامها في اجتماعات مجلس الإدارة
خلال العروض التي عادة ما يقدمها لأعضاء المجلس موثقة بالأرقام والرسوم البيانية ،
الأمر الذي اضطر (العصفور) إلى اللجوء لمشروعات تطوير والإقتراض من الغابات المجاورة
لشراء أجهزة حديثة وتطوير المكاتب والمنشآت واستحداث قسم خاص لتقنية المعلومات «آي
تي» وتعيين «ذبابة» معروفة بإمكاناتها التقنية العالية للإشراف عليه ومراقبة النملة
وتوجية طلب للنملة بكتابة دراسة ذاتية وتوصيف كامل لكل ما تقوم بة من أعمال..
لم تستسغ (النملة) هذه الأعمال الورقية
الزائدة عن الحد، وكرهت الاجتماعات التي كان يعقدها (العصفور) لهم, وتستهلك أغلب الوقت
وتعطلها عن العمل، ولكنها صبرت وتحملت .. أما
(الأسد) فقد كان سعيدا بما يجري، لذلك رأى أنه قد حان الوقت لتعيين مدير للإدارة بعد
أن تشعب العمل , وأصبح بحاجة إلى من يضبط إيقاعه فوقع اختياره على (دبور) يحمل شهادات
عليا في الإدارة الحديثة ليشكل (مجلس أعلى إستشاري) .
وما أن تسلم (الدبور) مهام عمله حتى أمر
بشراء سجادة تليق بالمكتب الفخم الذي سيدير العمل من خلاله , وموكب سيارات لتحركاته
مع زملائه ، كما طلب كرسيا ذا مواصفات خاصة تناسب ساعات العمل الطويلة التي سيقضيها
في المكتب، وكان طبيعيا أن يحتاج أيضا إلى أجهزة حديثة ، وإلى مساعدين من أقاربة واصدقائة
كي يساعدوه على القيام بأعباء الإدارة الجديدة، وطلب توفير رواتب مجزية بحجة انهم كفاءات , وأوكل إليهم مهمات عديدة؛ من بينها وضع خطة إستراتيجية
متكاملة وتصور للميزانية المطلوبة مع توفير النفقات ، وهكذا تحول مقر العمل الذي كانت
(النملة) تشعر بالسعادة والألفة فيه إلى مكان كئيب وخانق وغير مشجع على العمل، واختفت
البسمة من على وجه النملة وكل زملائها الذين كانوا يتبعون شتى الطرق لإنجاح العمل،
وبعد ان كان العمل جماعي أصبح فردي وبعض منهم اهتم برضا العصفور والدبور على حساب الإنتاج
الفعلي . وأصبح القلق وسرعة الانفعال والمشاجرات عاملا مشتركا بينهم..
لاحظ (الأسد) أنّ إنتاج الإدارة قد انخفض
كثيرا، وأن التكاليف قد زادت بنسبة لا تتوافق مع كمية الإنتاج التي تراجعت بشكل ملفت،
فقرر أن يجري دراسة على بيئة العمل ليعرف موضع الخلل، ولأن دراسة من هذا النوع تحتاج
إلى مختص ذي خبرة طويلة, فقد قرر أن يسند هذه المهمة إلى (بومة) ذات مكانة مرموقة وشهرة
واسعة في هذا المجال، فأصدر قرارا بتعيينها "مستشارة" للإدارة براتب خيالي
وعمولة مغرية نظرا للطلب الشديد عليها، وكلفها بعملية التدقيق هذه، وطلب منها اقتراح
الحلول المناسبة لمعالجة هذا الأمر. لم يكن الأمر سهلا، هكذا صورت البومة مهمتها للأسد
، فقامت بتشكيل ( مجلس استشاري أعلى من المجلس السابق) وكما هي عادة الخبراء الذين
يضخمون الأمور ويفلسفونها ويقضون الكثير من الوقت في البحث والدراسة والتحليل قبل أن
يخرجوا بالحلول التي عادة ما نتوقع أنها سحرية للقضايا التي عادة ما يصورونها إنها
صعبة جدا ومعقدة ..!! .
قضت البومة فترة قاربت العامين تنقّب في
دفاتر الدائرة، وتراجع التجارب الاخرى المناظرة, وتنقل منها حرفيا وتكتب كل خطواتها
بدون دراسة واقع البيئة المحيطة للنملة , وبدأت تفحص خطوط الإنتاج والمداخل والمخارج
قبل أن تخرج بتقرير ضخم يحتاج المرء إلى ساعات طويلة لقراءته وفهمه ومعادلات غير مفهومة
بصياغة معقدة حتي لا يستوعبها الأسد ، ملخصها النهائي: هناك تضخما وظيفيا في الدائرة،
وميزانيات مهدرة, والعلاج الوحيد لهذا التضخم هو تخفيض الرواتب والحوافز و التخلص من
بعض الموجودين الذين يشكلون عبئا على هذه الدائرة. .
لم يكن أمام (الأسد) بعد هذه الدراسة ذات
الكلفة العالية التي تكبدتها المؤسسة سوى الخضوع للحل الذي اقترحته (البومة) في تقريرها،
ولكن من تراه أول من قرر أن يطيح به ويفصله من المؤسسة؟
لقد كانت (النملة) التي قال التقرير إن
الحافز للعمل قد انعدم لديها، وأنها أصبحت عمالة زائدة, ووقفت موقفا سلبيا من التغيرات
التي حدثت في المؤسسة التي كانت أكثر إنتاجا وأفضل بيئة قبل أن تطرأ عليها كل هذه الأحداث
وتحولها إلى بيئة طاردة لا تشجع على العمل والإنتاج
ملاحظة:
هذه القصة منقولة بتصرف عن البرتغالية ، شخصياتها وأحداثها كلها من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين ما يحدث داخل بعض المؤسسات والدوائر ليس إلا من باب الصدفة البحتة