استاذ الجامعة.. هل هو على قيد الحياة أم ميت؟
علاج المرحوم الدكتور" فلان الفلاني" .. ومعاش ابن المرحوم الدكتور "علان العلاني"
الصورة الأولى
:
يرقد الدكتور فلان
الفلاني وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيدا , ممددا على سرير المستشفى الجامعي بغرفة مشتركة
تملئها الضجيج من أصوات زيارة المريض الآخر ,
يتذكر شريط حياته منذ بداية التحاقه طالب بالجامعة ونجاحة بتفوق كل عام , ثم تعيينه معيدا بالجامعة وحصوله على بعثه خارجية
حصل منها على شهادتي الماجستير و الدكتوراه
من إحدى الجامعات الأجنبية , وعودته لأرض الوطن ثم زواجه من فتاة أحلامه التي أنجبت له قرة عينه
, ثم مغادرته مرة أخرى للإعارة بإحدى الدول العربية لاستكمال الإنفاق على أبحاث الترقيات
ولاستكمال نفقات اسرته نظرا لضعف الرواتب بمصر
, وتركه للأسرة بمفردهم , متحملا للمشقة والغربة اعتقادا منه أن
المال قد يعوض غيابه عن الأسرة , ثم تذكر عودته مرة أخري للوطن بعد غياب العديد من
السنوات وجمعه مبلغا من المال لا بأس به , فوجد أبنه قد أصبح شابا يافعا ولكنه لا يستمع
لنصائحه وتوجهاته , ويتذكر صوت ابنه الذي كان يرجوه بعدم السفر , وترن في إذنه الجملة
التي كان يرددها الابن وهو طفل " نفسي أقعد أتكلم معاك, انت لية دايما مشغول عني
"..!! , ويتذكر علامات الكبر التي بدأت تزحف على زوجته ومرضها الشديد الذي أنهكها من التعب , وإنفاقه كل ما جمعة من أموال
على علاجها , ويعتصره الالم عند تذكر لحظة وفاتها وهي توصيه على ابنهما الوحيد , ومطالبات
الابن التي لا تنتهي إصرارة على الدراسة خارج مصر , والتي تسببت في انتداب الأب لإحدى
الجامعات الخاصة وانشغاله بالدروس الخصوصية
ليعوض الفارق الرهيب في مستوي المعيشة , بعدما أنفق كل ما يملك من مال , ويتذكر أولي
لحظات مرضه وتقديمة طلب العلاج على نفقة الجامعة بإحدى المستشفيات الخاصة على نفقة الجامعة, والذي
قوبل بالرفض بسبب اللوائح التي تشترط العلاج بمستشفى الجامعة .. وتذكر وهو يجهش بالبكاء
محاولات زملائه وجمعهم تبرعات لمساعدته في استكمال نفقات علاجه , ومقالاتهم على مواقع
التواصل الاجتماعي والتي كانت تحمل صورته واسمه وتخصصه وإنجازاته العلمية وتاريخه المرضي
, ومناشدتهم للمسئولين بتوفير خدمة علاجية لائقة لزميلهم , وحالته النفسية التي ساءت
بسبب كتابتهم للاسم ونشر صوره أمام باقي زملائه ..!!!
وفي تلك الحظة
رن الهاتف.. وظهر رقم ابنه من احدي الدول الأجنبية ففرح بشدة ولكن لم تدوم تلك الفرحة
طويلا فقد كانت الجملة الأولي هي " بابا
إبعتلي فلوس" ولكن لم يرد الأب ..... فنادي علية الأبن مرات ومرات
" بابا
.... بابا... باباااااا " ولكن قد حان
الأجل , وصعدت روحة الطاهرة لخالقها , لتسقط سماعة الهاتف على الارض ويلتقطها احد الزائرين
ويقول للابن البقاء لله " لقد أسمعت لو ناديت حيا--- ولكن لا حياة لمن تنادي"...!!
الصورة الثانية:
.. "مختلفة تماما"
انا ابن الدكتور
المرحوم "علان العلاني" الذي كان يعمل بإحدى جامعات مصر الحكومية, والدي
أفني حياته في خدمة البحث العلمي ونقل العلم والمعرفة لطلابه , متمسكاُ بمبادئه, رافضا
لاستغلال الطلاب في تجارة الكتب والملازم , كان مؤمنا بأهمية البحث والمراجع للطلاب
, وكان دائم القول أن الكتاب الجامعي هو سبب هبوط مستوي الخريجين, لذا كان يعتمد في تدريسه لطلابه على المراجع المتوفرة
بالمكتبات.
والدي كان مشغولاُ
بالقراءة وتحصيل العلم طوال الوقت حتى أثناء تواجده بالمنزل, وفي طفولتي لم أستطيع
الجلوس معه مثلما كان يفعل كل من هم في مثل سني ليتحدث أو يلعب معي, بسبب انشغاله الشديد
بأبحاثه.
كان والدي رافضا للعمل خارج أسوار الجامعة , ورافضاُ
للدروس الخصوصية لإيمانه بانها جريمة في حق هذا المجتمع وفي حقة هو شخصيا , وتدل على
تقصيره بداخل المحاضرات , بل و كان يراها رشوة مقننه يدفعها الطلاب لاجتياز الامتحان
والنجاح فيه, وتتسبب في ظلم للطلبة الغير قادرين ماديا.
لم يكن والدي يصحبني أو أسرتي في نزهة خارج المنزل
لضيق ذات اليد , التحقت بالتعليم الحكومي وكان والدي دائم المساندة لي بتحفيزي لأجتهد
واستذكر دروسي بشغف وكنت متفوق في دراستي ودائما أحصد المراكز الأولى ,حتي حققت ترتيب
من العشرة الأوائل على مستوي الجمهورية , وحصلت على هدايا وجوائز ومنحة شهرية طوال
سنوات دراستي بالجامعة .
وصل والدي لسن الستين وبدأ المرض يتسرب لجسده النحيل
, وسمعته يوما يتحدث مع أحد تلاميذه على الهاتف
يرجوه لصرف مقابل العلاج الذي كان يحتاج إلية شهريا بشكل مستمر والذي تجاوز الالف جنية
شهريا , وعندما أغلق الخط وجدته حزين وقد اغرورقت
عيناه بالدموع لأنه استنفذ كل رصيده من العلاج الذي تخصصه له الدولة..!!
وعندما تمكن منه المرض وأصبح قعيدا , استمر في الذهاب
لجامعته يوميا على كرسي متحرك بشكل منتظم وكان يتحامل على نفسة لدرجة أصابته مغشيا
علية العديد من المرات , وعندما كنا نطلب منه
الراحة بالمنزل كان يبرر لنا ذهابه لأنه يحب العمل والذهاب لجامعته , ولكننا اكتشفنا
المأساة..!! والدي لم يكن يذهب رغبة منه في ممارسة عملة , فقد كان يتألم أشد الألم
بسبب المرض , ولكن كان ذهابه يوميا لتعويض الفارق بين الراتب والمعاش لشراء العلاج
وتوفير نفقات الأسرة , والذي اكتشفنا بعدما توفي أن معاش والدي هو 874 جنية وأربعون قرشاُ فقط لا غير ,
بعدما أفني حياته كلها في خدمة العلم , ولا تتعجب عزيزي القارئ فهذه القيمة
هي ما تقدمة الدولة من تكريم لأبنائها العلماء.
بعدما توفي والدي لم يكن معاشه يكفي احتياجات الاسرة
... لهذا قررنا عرض مكتبته العلمية للبيع لتساعدنا
على تحمل نفقات المعيشة .. ولكن للأسف لم يكن لها سوق إلا بالكيلو لمحال الفول والطعمية
..!!
ورغم كل ما سبق
وما شاهدته طوال حياتي, فإنني أفتخر بوالدي واجتهدت في دراستي لأحقق له أمنيته, فحصلت علي شهادة التخرج بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف, والأول على دفعتي طوال سنوات دراستي وتم تكريمي
من جامعتي ...., وعند زيارتي لقبر والدي وبعد أن دعوت له بالرحمة والمغفرة أخذت بالتحدث إلية بأنني حققت
له أمنيته وكنت الأول على دفعتي كما كان يرغب,
وأعتذر له وأتأسف لأنني قررت عدم الاقتداء به في الالتحاق بالعمل الجامعي ,
وإنني سأرفض تعيني معيدا بالجامعة - وتلك كانت هي المرة الأولي والأخيرة التي أخالف
فيها رغبته – وقلت له لا يوجد اهتمام لا بالعلم
ولا العلماء .. وأستئنذك يا أبي ان تسامحني
حتي لا أعاني انا واسرتي ونلقي نفس المصير وتباع مكتبتي العلمية بالكيلو ..!!
وفجأة سمعت صوت أبي صادر من القبر يقول لي بنبرة
كلها حزن وألم
" لقد أسمعت لو ناديت حيا --- ولكن لا حياة لمن تنادي"...!!!