اكرم الكراني يكتب..الفنان أحمد زكي سر الموهبة والمعاناة
يَعُدُّ النجم أحمد زكي إحدى الأيقونات البارزة في تاريخ الفن السينمائي المصري، حيث استطاع بموهبته الفذة وأدائه العميق المتقن أن يُحجز لنفسه مكانًا في الصدارة بين عمالقة التمثيل في جيله، متفوِّقًا على الكثيرين بقدرته الفائقة على التشخيص والتحليل النفسي للشخصيات التي أدّاها. حظي بتقدير نقدي وجماهيري رغم أن الحظ لم يُحالفه دائمًا في عالم الفن الساحر. برزت كاريزما أحمد زكي وذكاؤه الفني الحاد في تقمّصه للأدوار المتنوعة؛ مُجسِّدًا من خلالها صورة الفنان الشامل الذي يترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة المتلقي. من وجهة نظري، تُعتبر مصر أنها قد منحت عالم الفن أحد مواهبها الفريدة في شخصية أحمد زكي، الذي رغم قلة حظه، ظلَّ وافر الموهبة، متسلقًا سُلَّم النجاح بثبات وعزيمة لا تلين.
ظروف شديدة القسوة
نشأ الفنان أحمد زكي في ظروف شديدة القسوة، فقد كان يتيما، مما دفعه إلى خوض غمار الحياة بمفرده مبكرًا، وهذا بلا شك زرع فيه حسًا عميقًا بالشخصية والمعاناة الإنسانية، مما كان له الأثر البالغ في تطوير موهبته الفنية. لقد استطاع أحمد زكي استلهام تلك المعاناة في ترجمتها على الشاشة في أدوار تحكي مشاعر الحزن والألم والوحدة ببراعة شديدة. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في بلورة مسيرته الفنية، انفصاله عن شريكة حياته الفنانة هالة فؤاد، التي بالرغم من الحب الكبير بينهما إلا أن الزواج لم يدم طويلًا، وهذا الانفصال خلّف لديه جرحًا عميقًا ساهم في عطائه الفني. كما أثرت وفاة ابنه هيثم بعد فترة قصيرة من فقدانه بأثر بالغ، لتشكل حياته قصة مؤثرة ظهرت جوانبها في أعماله الفنية، فكل تلك التجارب جسّدت معاناة إنسانية استثنائية منعكسة في كل شخصية قدمها على شاشات السينما.
أحمد زكي مكانة متفرّدة في سماء السينما المصرية
لطالما احتل الفنان القدير أحمد زكي مكانة متفرّدة في سماء السينما المصرية، متربعًا على قمة الأداء التمثيلي بفضل ملكاته التي كانت محط إعجاب وتقدير النُقاد والمؤرخين الفنيين، ومنهم رفيق الصبان وكمال الملاخ ويوسف شريف رزق الله، الذين أجمعوا على أحد أسرار عبقريته الفريدة التي تتجلى في استلهامه التام للشخصيات التي قدمها. بهذه الكاريزما، استطاع زكي أن يحاكي تفاصيل الشخصية التي يؤديها بعمق شديد وتركيز لافت، بحيث لم يعتمد نجاحه السينمائي على عائدات الإعلانات أو الإيرادات فحسب، بل كان النجاح محصنًا بذلك التقمص الشديد لروح الشخصية، مما جعل تأثيره الفني يمتد لفترات طويلة بعد انتهائه من التصوير. لقد كانت شخصية الفيلم لا تتلاشى من ذاكرته وجسده إلا بعد معاناة حقيقية من الأعراض الانسحابية، كمن يودع جزءًا من روحه، قبل أن ينخرط في سبر أغوار عمل فني جديد. هذه الرحلة في أعماق النفس البشرية التي انتهجها الفنان أحمد زكي في تفانيه وإخلاصه لفنه كانت إحدى العلامات الفارقة في مسيرته الحافلة التي كتبت بحروف من نور في تاريخ السينما العربية.
تجسيد أدوار معقدة بأسلوب يكاد يكون خارقًا للعادة
لقد كان أحمد زكي يتقن استلهام شخصيته الفنية من خلال تجسيد أدوار معقدة بأسلوب يكاد يكون خارقًا للعادة، فقد ظهر هذا جليًا اثناء تأديته لدور المحامي الذي يقف ضد الحكومة، والضابط في فيلم "أرض الخوف"، والسياسي في "زوجة رجل مهم". كانت تلك الشخصيات ليست مجرد أدوار يؤديها بل كانت تمثل جزءًا من كينونته، بحيث يعيش تفاصيلها ويتنفس أحداثها حتى بعد انتهاء التصوير. هو تقمص يخلق إضافة نوعية نادرة في عالم التمثيل، ولكنه في ذات الوقت، كان يأتي بأثمان باهظة. ففي حياته الخاصة، عانى زكي من المشاكل الزوجية التي تفاقمت بسبب اندماجه المفرط في الشخصيات التي يلعبها، وقد أدى ذلك إلى توتر علاقته بزوجته الفنانة هالة فؤاد.
أسرار العبقرية
وقد ذكر الناقد الفني الأمير أباظة أن شخصيتيْ الزعيمين الراحلين جمال عبد الناصر والسادات قد تلازمتا مع الفنان أحمد زكي بعد انتهاء تصوير أفلامهما على نحو قد يبدو غامضًا للبعض. مثل هذا التفاني والإخلاص للفن هو ما جعل من أحمد زكي مثالًا يحتذى به في السينما العربية. وحتى في أيامه الأخيرة، وبينما كان يناضل مع المرض، لم يتخل زكي عن شغفه، حيث استمر في تصوير آخر أعماله الفنية "حليم" على فترات متقطعة وهو على فراش الموت. إن قصة حياة أحمد زكي، مع مواجهاتها وانتصاراتها، تسرد فصولًا من "أسرار العبقرية" التي استطاع من خلالها أن يترك بصمة لا تُمحى في قلوب عشاق الفن السابع.
تجسّد أسرار العبقرية في مسيرة الفنان القدير أحمد زكي، الذي أثرى السينما المصرية بأدوار خالدة تنم عن دراسة عميقة وتقمص شديد للشخصيات التي أداها. ذكر المؤرخ الفني كمال الملاخ، أن زكي لم يميل إلى حياة الاستقرار، بل كان يبحث عن الانغماس بين الناس ليفهمهم أكثر، وحتى في أثناء فترة زواجه كان يعيش في حجرة بفندق بمفرده أو مع ابنه هيثم في أوقات أخرى. هذا السلوك الذي أكدته المذيعة سلمي الشماع أثناء حلقة استضافت فيها الفنان الراحل، يعكس طبيعة زكي الباحثة دومًا عن جوهر الإنسانية والحقيقة. قصة حياته مليئة بتقلبات تشبه إلى حدّ كبير حياة العندليب عبد الحليم حافظ؛ فكلاهما قد عاش حياة متقاربة ونهاية مشابهة وكان للألم دوره في صقل موهبتيهما الفذة. مرت أكثر من خمسة عشر عامًا على رحيل أستاذ الفن أحمد زكي، ولا تزال مصر تذكره كأحد أعظم المواهب التي لم تعرف لها مصر مثيلًا، فبعبقريته التي تتسم بالذكاء والعمق في الأداء واستيعاب الشخصيات، يظل رمزًا لإبداع لا يتجزأ. وفي هذا الصدد، فإن إيرادات الإعلانات الضخمة وما يمتلكه المنتجون من أجور زائفة لا يمكن أن تقارن بحقيقة الفن الراقي الذي قدمه زكي، فعبقريته لا تقدر بثمن وستظل خالدة في وجدان الجمهور والنقاد.