فساد التعليم فى مصر.. أخطر من الجاسوسية والإرهاب
الثلاثاء 27/أكتوبر/2015 - 12:04 ص
بعد دقائق من انتشار خبر «تجميد العمل بقرار تخصيص 10 درجات للحضور والسلوك لطلاب الثانوية العامة لهذا العام»، الذى أصدره رئيس الوزراء عصر السبت الماضى، طالعت العشرات من التعليقات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعى، بعضها لأناس أعرفهم، وبعضها لآخرين لا يقل مستواهم التعليمى أو المهنى عمن أعرفهم. وقد أدهشنى أن كل التعليقات تقريباً رأت فى قرار التجميد انتقاصاً من هيبة الدولة، وتراجعاً أمام مافيا الدروس الخصوصية ودعاة الفوضى والتسيب. وقد تخيلت العديد من كتاب مقالات الرأى فى الصحف وضيوف الفضائيات وهم يجلدون رئيس الوزراء بأقلامهم وألسنتهم، لأنه رضخ لمطالب التلاميذ غير المشروعة، وتراجع عن قرار كان من شأنه أن يعيد الانضباط السلوكى والتعليمى إلى مدارسنا التى تعانى من الانهيار والفوضى.
والآن، إذ أكتب هذا المقال بعد ساعتين من إعلان قرار التجميد، لا أجد بداخلى أدنى حرج فى أن أصارحكم بأننى واحد ممن فرحوا بهذا القرار، وأننى تمنيت أن يمتد أثر هذا القرار ليشمل كل تلاميذ مرحلة التعليم الأساسى وليس فقط طلبة الثانوية العامة، والأكثر من ذلك أننى سأفرح أكثر لو صدر قرار من أعلى سلطة فى البلد يعتبر الحضور فى المدارس أمراً اختيارياً، إذا أراد الطالب أن يحضر فليحضر، وإذا أراد أن يغيب فلا يؤثر غيابه على درجاته النهائية.
والحقيقة أننى لست من هواة الفوضى على الإطلاق، ولا أطيق التسيب ولا الترهل فى أماكن العمل أو الدراسة، ولكننى فى الوقت ذاته لا أطيق «العنتريات» التافهة، التى يلجأ إليها البعض للإيحاء بأنه جاد ومنضبط ولا يعجبه «الحال المايل».. وهو فى الحقيقة يعرف جيداً أنه يضع قدراً من المساحيق على وجه شوهته الدمامل، لكى يحصل على إعجاب مؤقت وعلى إشادات زائفة، كما يعرف، مثلما نعرف، أن هذه المساحيق التى وضعها على الوجه المريض ستفاقم مرضه وستؤدى إلى التقيح والعفن، والأهم من ذلك كله أن هذه «العنتريات» الانضباطية الهدف الأساسى منها هو شغل الرأى العام بقضية وهمية، تصرف انتباه الجميع عن الجرائم المنظمة والرهيبة التى يرتكبها القائمون على أمر التعليم العام والخاص، بعد أن تحول منذ أكثر من عشرين سنة إلى تجارة محرمة، هى أبشع آلاف المرات وأخطر على الأمن القومى من جرائم الجاسوسية والإرهاب وتجارة المخدرات.
لقد تحول التعليم فى مصر، فى كل مراحله من الحضانة إلى الدراسات العليا ومروراً بالتعليم الجامعى العام والخاص، إلى مستنقع قذر لا يمكن تطهيره بواسطة القائمين على أمره أياً كانوا، كما أن إصلاح منظومة التعليم فى مصر لا يبدأ من تغيير المناهج أو تطويرها كما كنا نظن، ولا من تطوير نظام التقييم، ولا بتخفيف كثافة الفصول، ولا بتحسين أجور المعلمين، ولا بعودة الانضباط السلوكى، ولا بتخصيص موازنة أكبر للتعليم، فكل هذه الأمور تصلح لرفع كفاءة التعليم فى أى بلد إلا مصر.
إن إصلاح التعليم فى مصر يبدأ من إسناد أمره كله إلى جهاز الرقابة الإدارية وجهاز الكسب غير المشروع وأجهزة الأمن القومى، وسوف نكتشف خلال شهور قليلة أهوالاً لم تكن تخطر لنا على بال: سنكتشف مثلاً أن الذين يضعون المناهج المعقدة والتافهة والمضطربة فى كل مراحل التعليم الأساسى هم على الأقل شركاء مع مافيا وضع الكتب الخارجية، وأن المناهج التى يتم التلاعب فيها بالتعديل مرة والإضافة أو الحذف كل سنة، تتم فى مكاتب أصحاب الكتب الخارجية التى تتوافر فى كل مكتبات مصر قبل بدء العام الدراسى بأسبوعين على الأقل، فى الوقت الذى لا تصل فيه الكتب المدرسية الرسمية إلى أى مدرسة عامة أو خاصة إلا بعد أسابيع وربما شهور من بدء الدراسة!
وسوف نكتشف أن العشرات ممن تعاقبوا على المناصب التنفيذية العليا فى وزارة التربية والتعليم أصبحوا منذ سنوات شركاء بنسب تتفاوت حسب الأهمية فى العديد من المدارس الخاصة التى انفردت بالطبقة المتوسطة وامتصت رحيق الحياة من عروقها، دون أن تقدم لأبنائها أى تعليم، ولم يعد خافياً على أحد أن كل الوزراء المتعاقبين وكل وكلاء وزارة التربية والتعليم عجزوا تماماً عن إلزام هذه المدارس بأى قرار يتعلق بالمصروفات أو الرسوم، وقد وصل الأمر إلى حد أن غالبية المدارس الخاصة لا يوجد بها من الأساس فصول مخصصة لطلبة الثانوية العامة، وأن هذه المدارس كانت فى حيرة من أمرها بسبب قرار إلزام طلبة الثانوية بالحضور، واضطرت لتجميعهم فى الأحواش والحدائق حتى تمر العاصفة.. والمثير للغثيان أن كل القائمين على أمر التعليم على علم تام بهذا الأمر، ولم يجرؤ أحد منهم على إلزام مدرسة خاصة واحدة بإتاحة فصل أو أكثر لهؤلاء الطلبة.
ولقد أصبح من العلم العام، أيضاً، أن هناك مصلحة إجرامية واضحة فى تعقيد تنسيق الجامعات، وفى تأخير ظهور تنسيق طلبة الثانوية الأجنبية وهم عشرات الآلاف كل عام، وأن الهدف من كل هذا التعقيد هو سد أبواب الجامعات العامة فى وجوههم وبيعهم بالرأس للجامعات الخاصة، كما أن مسرحية تقليل الاغتراب التى ينصبها المجلس الأعلى للجامعات كل عام ويتشدد فيها إلى حد «الكفر»، ثم يتراجع فجأة عن كل قراراته بعد شهر كامل من بدء الدراسة، الهدف منها أيضاً إرغام أولياء أمور هؤلاء الطلبة على إلحاقهم بالتعليم الخاص أو بالتعليم الموازى فى الجامعات الخاصة.
التربح الإجرامى الفاسق هو أصل العلة فى فساد منظومة التعليم، وإذا تمكن جهاز رقابى أو أكثر من وضع يده على مكمن الداء فسوف تنحل العقد واحدة بعد الأخرى، وسوف تخرج أفكار تطوير المناهج والامتحانات من الأدراج، وسوف تنتعش خزينة الدولة بمليارات الجنيهات التى راكمها هؤلاء الفسقة من إفساد منظومة التعليم.. أما إذا ظللنا نبحث عن الحلول فى مثل هذه «العنتريات» التافهة، فلن يكون هناك أدنى أمل فى أى إصلاح.. وسيظل الغياب من هذه المدارس والجامعات أكثر ضماناً للصحة العقلية والنفسية وللانضباط الأخلاقى من الذهاب إليها.
مقال الكاتب الصحفي / محمد البرغوثي
في جريدة الوطن