ضد التصور الأسطوري للمرأة "1"
رأينا عبر خمس عشر مقالا حجم الأساطير في الأديان المختلفة عن الشيطان، وامتدادات تلك الأساطير في الثقافة التراثية الشائعة عند قطاعات من المسلمين بالمخالفة للعقائد النقية الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتواترة، كما رأينا كيف أن الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والمكذوبة والحكايات الشعبية لعبت دورا كبيرا في كثير من كتب التراث وتجاورت مع العقائد الصحيحة.
وكان بالإمكان أن تتضاعف تلك السلسلة لمزيد
من الأمثلة من كتب الخطاب الديني التقليدي على مخالفة الوحي النقي.
وأتصور أنه ربما يكون ما أوردناه من أمثلة من كتب
التيار الأشعري كافيا للتدليل على صحة ما نقوله من أن الخطاب الديني التقليدي في معتقداته
عن الشيطان قد ابتعد في جانب منها عن القرآن الكريم والسنة المتواترة، واختلطت فيه
المعتقدات الأصيلة بالمعتقدات التي ليس ليها أصل من الوحي الكريم.
ومن أسف فإن الخطاب الديني البشري التقليدي
يخالف الوحي الكريم، وينسب للرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله وما لم يفعله، ومن
ثم فإن التراث به الإيجابي وبه أيضا السلبي، والغريب أن قطاعات منا تصر على السير بكل
عزيمة وراء السلبي، وتدافع عنه دفاعا مجيدا!
إن المزايدة على الاحتفاظ بالتراث كله دون تمييز بين الإيجابي والسلبي، مغالطة
كبرى، ودغدغة لمشاعر الغوغاء، واستدعاء لكل عصبية الألتراس، ما الفرق بين المهللين
لهم وبين تهليل الألتراس في مباراة مفتعلة!
مهما يكن من أمر، فإنه يمكن بداية سلسلة
جديدة حول تصور آخر من التصورات الأسطورية التي لا تزال تحكم رؤيتنا بالمخالفة للوحي
الكريم. وليكن تصورنا للمرأة؛ لأنه تصور متشابك مع تصورنا عن الشيطان! فمن أهم الملاحظات
التي يمكن أن نخرج بها من السلسلة السابقة أن تلك الثقافة الأسطورية عن الشيطان اقترنت
بتصور أسطوري عن المرأة؛ حيث تظهر المرأة لاعبا رئيسا على مسرح الشيطان!
ولعل نص الغزالي الأخير من كتاب (إحياء
علوم الدين) الذي عرضناه في المقال السابق يمثل أكبر مثالا على ما نقوله، ويعد جسرا
بين مقالات (ضد التصور الأسطوري للشيطان) ومقالات (ضد التصور الأسطوري للمرأة)، فالتصوران
متشابكان تشابك بيتين للعنكبوت. وقد بدأنا في ذلك المقال ببيان حجم الأسطورة في تصور
الغزالي، ونتابع في هذا المقال الذي نبدأ به سلسلة جديدة بقية التعليق على ذلك النص،
والذي بدأ بالشيطان وانتهى بالمرأة كبطلين في مسرحية الشر! أو بلغة فن السينما: الشيطان
هو البطل والمرأة هي البطل المساعد!
يستشهد الغزالي بكل بساطة على تصوره للمرأة
بحديث يوجد بإسناده جهالة، أي بحديث يوجد بسنده مشكلة حقيقية تمنع التصديق بأن الرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذا القول، ومع ذلك نسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال :"النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان
للنساء سلطنة على الرجال". والحبائل جمع حِبالة بالكسر، وهي المصيدة المصنوعة
من حبال يصاد ويُؤخذ بها الصَّيد، وقال الحافظ العراقي: أخرجه الأصفهاني في الترغيب
والترهيب من حديث خالد بن زيد الجهني بإسناد فيه جهالة. وضعفه الألباني في السلسلة
الضعيفة. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي بتحقيقي، وكشف الخفاء للعجلوني، ونصب الراية
للزيلعي، ومسند الشهاب، والمغازي للواقدي، ودلائل النبوة للبيهقي، والمصنف لابن أبي
شيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، والدر المنثور للسيوطي.
والسؤال كيف يروج الغزالي في كتاب (إحياء
علوم الدين) لحديث يوجد بإسناده جهالة، حديث لم يثبت أن النبي قاله، والخطورة أنه ليس
قولا عاديا في مسألة جزئية، بل في حكم عام يشكل ويكون تصورا عاما للمرأة، وهو حكم خطير
لأنه يشكل نظرة متدنية للمرأة ويجعلها موضع التحقير وفي مربع واحد مع الشيطان! هكذا
مرة واحدة يحكم على النساء (أمي وأمك، وابنتي وابنتك، وأختي وأختك، ومدرستي ومدرستك،
وجدتي وجدتك، ...)، أنهن حبائل الشيطان، إنهن أدوات الشيطان! ويجزم بأنه "لولا
هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال"، فهل الشهوة هي الرابط الوحيد بين
الرجل والمرأة؟ هل يمكن اختزال العلاقات الإنسانية المتشعبة بينهما في علاقة جسدين؟
هل كان ما يربط الرسول بخديجة هو رابط جسدي فقط، أم أيضا روابط إنسانية متنوعة من طراز
رفيع؟ هل كان يربط بين الرسول وأسماء بنت أبي بكر أي رابط سوى دعوة الحق؟ ألم يكن لها
دور مفصلي في الانتقال من مربع الانحصار والوشْك والإيشاك على انتهاء الدعوة إلى مربع
الانطلاق والانتصار ؟ ألم يقل الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ( سورة الروم: آية21).
ألم يحتف القرآن بامرأة عمران الكريمة وابنتها
الطاهرة مريم، (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا
وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا
بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ
حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا
زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ
هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ) ( آل عمران: 37)
أليست المرأة جزءا من الرجل عند مبدأ الخليقة
البشرية، أليس كل الرجال جزءا من النساء أمهاتهن، وكل النساء جزء من الرجال أبائهن،
ألم يجزم القرآن بأن بعضنا من بعض، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ
عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران:
195).
إن التصور العام الذي يطرحه القرآن لا يوجد
فيه أي نص على حكم عام سلبي على النساء كنوع، بل إن الأحكام العامة التي يطلقها يشترك
فيها الرجال والنساء كجنس بشري واحد، (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
ثم يأتي الغزالي رحمه الله وغيره بحديث
في إسناده جهالة ويحكم عليهن: (النساء حبائل الشيطان)! وهذا الحديث المنسوب بهذا السند
المتهاوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متعارض بكل شدة مع المتن القرآن، بل ومع الأحاديث
الصحيحة الثابتة عن الرسول. فهو حديث مردود سندا ومتنا، لكن نفرا من قادة الخطاب الديني
التقليدي يستشهدون به ضد المرأة.
ألسنا فعلا بحاجة إلى خطاب ديني جديد يرجع بنا إلى الوحي الكريم قبل أن تمتد إلى تفسيره ثقافات رجعية حملته بأساطير وموروثات اجتماعية جاهلية؟!”.