السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
أخبار الأزهر

تعرف علي غزوة الطائف حقيقة النصر في الإسلام

الخميس 09/يوليو/2015 - 11:27 م
السبورة

غزوة الطائف انتصر المسلمون يوم حُنين، ولم يَدُرْ فيه قتال يذكر، ومع ذلك كان له من الآثار ما لا يحصى، وكان من أهم هذه الآثار أن المسلمين فقهوا جيدًا حقيقة النصر في الإسلام، وعلموا تمام العلم أن المسلم الذي يَعِدُّ العُدَّة دون أن يرتبط بالله ، فإن نصره بعيد، وثباته محال. وكان هذا الدرس من أبلغ الدروس التي تعلمها المسلمون في كل حياتهم السابقة، ورأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها من أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم وعادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن، حتى وصلوا في فرارهم إلى مدينة الطائف.

وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصريّ، فقد ظل زعيمهم حتى بعد هزيمته في حُنين. وبعد ذلك أخذ الرسول معظم الجيش، وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن حتى يقابلهم في معركة فاصلة؛ لذلك لم يقسِّم الرسول غنائم حُنين الهائلة إلا عندما ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع.

الرسول يسير بالجيش إلى الطائف

سار الرسول في جيشه الضخم متجهًا إلى الطائف، والمقارنة عجيبة بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره إليها منذ أحد عشر عامًا، وكان الرسول وقتها متجهًا إلى الطائف، وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان يسير ماشيًا على قدميه، وليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة ، فقد طردته مكة، وأخرجته وتنكرت له، وماتت السيدة خديجة رضي الله عنها، ومات عمه أبو طالب، وليس معه في مكة إلا أقل القليل من المؤمنين الذين لا يتجاوزون المائة. فالوضع كان في قمة المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه ، بل عمقت هذه الآلام، ورفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول بشدة، واستقبلته استقبال اللئام، لا استقبال الكرام، وطردوه هو وصاحبه زيد ، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة.

ومرت الأيام، وكما يقول الله : {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].

وغيّر الله الأحوال، وجاء الرسول بعد أحد عشر عامًا كاملة بما لا يتخيله أحد، لا من الطائف، ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها. جاء الآن عزيزًا منتصرًا مُمَكَّنًا، رافعًا رأسه، ومحاطًا بجيش مؤمن جرّار، يزلزل الأرض من حوله، ويرفع راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله). أحد عشر عامًا فقط فرّقت بين الموقفين، وتحقق ما ذكره لصاحبه زيد بن حارثة يوم قال له في يقين -بعد عودتهم المحزنة من الطائف-: "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ"[2].

وسبحان الله! جاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تخيل الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم. ولا شك أن الرسول وهو ذاهب إلى الطائف كان في رأسه ذكريات كثيرة تجول في خاطره، إنها ذكريات لا حصر لها؛ الجيش يقطع صمت الصحراء في اتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، ولعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حِبّه ، عندما كان يصحبه في رحلة الطائف، والآن زيد لا يسير معه، فقد سبق زيد إلى الجنة ، إذْ استشهد في موقعة مؤتة.

ولعله تذكّر أهل الطائف، وهم يرفضون دعوته جميعًا -بلا استثناء- في تعنت أشد من تعنت أهل مكة. ولعله تذكر عبد يالِيل بن عمير الثقفي -الذي انتهت إليه زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي ، ويقول: هو يَمْرُطُ[3] ثيابَ الكعبة، إنْ كان الله أرسلك. ويقول الآخر: أمَا وَجَدَ الله أحدًا يرسله غيرك[4]. فقد فرَّ فرارًا مخزيًا من أرض حُنين، وذهب يختبئ في حصون الطائف.

ولعله تذكر عَدَّاس النصراني الغلام الصغير الذي آمن ، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئًا، لكنَّ الله يعلمه. ولعله تذكر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها ، الآن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة يرقدان في قَلِيب بدر يُعذَّبان مع قادة الكفر في مكة المكرمة في قبورهم. ولعله تذكر وهو يمر على وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به في رحلته إلى الطائف، وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة، ويتذكر جبريل، وملك الجبال. ذكريات كثيرة بعضها سعيد وبعضها أليم، والأيام على أي حال تمرّ، وكل شيء يذهب، ولا يبقى إلا العمل.

الجيش الإسلامي يصل إلى أرض الطائف

العملاق إلى الطائف، وتوقع الجميع معركة هائلة بين هذا التجمع الضخم من المسلمين، وبين تجمع هوازن وثقيف في حصون الطائف في عقر دارهم. وكان الجيش الإسلامي بكامله موجودًا في الطائف، ويبلغ اثني عشر ألفًا، وتوقع الجميع معركة هائلة، ولكن -سبحان الله- رفض المشركون الخروج للحرب، واختاروا أن يمكثوا في حصونهم دون قتال. وإذا قرر أهل ثقيف وهوازن عدم الخروج فسيكون القتال صعبًا للغاية، ولكنهم -فعلاً- رفضوا مع أن عَددهم وعُدَّتهم أضعاف المسلمين، ومع أنهم يقاتلون في بلادهم التي خبروها وبالقرب من مددهم، وفي ظروف اعتادوا عليها، ولكن الله ألقى الرهبة في قلوبهم، فما استطاعوا أن يأخذوا قرار الحرب مرة ثانية، واكتفوا بفضيحة حُنين.

ولا شك أن في هذا خزيًا كبيرًا؛ لأن نساء وأموال هوازن مع المسلمين الآن، ومع ذلك فضلوا ألاّ يخرجوا من حصونهم، وعدم السعي لاستخلاص هذه الأنعام، وهذه الأموال، وهذه النساء م

الرسول يستشير أحد أصحابه

وكان من نتيجة هذه السياسة الحكيمة أن نوفل بن معاوية القائد العسكري المحنك يُدلِي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، ولو كان القائد غير رسول الله لتتبع قوّاد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، ولكن الرؤية كانت واضحة جدًّا عند رسول الله "لأَن يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ"[8].

إنها سياسة نبوية ثابتة ومستقرة.

ماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله ؟

قال: "يا رسول الله، هم ثعلب في جُحرٍ، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك".

أي أن أهل ثقيف مثل الثعالب في مكرهم، وهذا حقيقي ومشهور عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عُيَينة بن حصن: "إن ثقيفًا قومٌ مناكير"[9]. أي أصحاب دهاء وفطنة ومكر. ورأينا طرفًا من هذه الفطنة، وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة. ثم إنه يؤكد أنه لا مهرب لهم من هذه الحصون: إن أقمت عليه أخذته.

غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كُسرت، ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، ولن تقوم لهم قائمة بعد اليوم، وطارت فضيحتهم في الآفاق؛ لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: وإن تركته لم يضرك.

أي لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك، وستفتح الحصن؛ لأن خطرهم أصبح معدومًا، وسوف يضيع الوقت في حصارهم، وقد يكون طول الحصار ضارًّا للجيش الإسلامي أكثر من نفعه. وهنا يعقد الرسول موازنة بين الأمرين، فيجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة.

الرسول يأمر برفع الحصار عن الطائف

هنا يأخذ الرسول القرار الصعب بالانسحاب إلى وادي الجعرانة حيث غنائم المسلمين، وترك حصار الحصن المنيع الطائف. وكان الرسول في منتهى الحسم في هذا القرار، حتى إنه بسرعة أرسل إلى عمر بن الخطاب أن ينادي في الناس ويقول: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

فما ردُّ فعل المسلمين على هذا الكرم؟ نجد أن المتحمسين والعاطفيين من أبناء الجيش الإسلامي لم يستريحوا لهذا الخبر، فأتوا بسرعة الرسولَ ، وقالوا في استنكار: نذهب ولا نفتحه؟

فلما رآهم الرسول كثرةً احترم رأيهم، وأراد أن يتعلموا الدرس بصورة عملية، فقال لهم: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ".

فسمح لهم بالقتال. وفي اليوم الثاني خرج المسلمون للقتال، وفي هذا اليوم بالذات أصيب المسلمون إصابات شديدة، إصابات بالغة فعلاً، وقام الرسول ، ولم يعنِّفهم على القرار الذي رغبوا فيه، ولم يقل لهم: ألم أقل لكم؟ وإنما قال في بساطة: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[10].

وقَبِل المسلمون هذه المرة في سرور، وامتنعوا عن الجدل، واقتنعوا بعدم جدوى القتال، وبدءوا فعلاً في جمع الرحال، ورسول الله يضحك.

وقفة مع هذا الموقف

ونقف وقفة مع هذا الموقف العظيم، والرسول يعلمنا في هذا الموقف أشياء مهمة. يريد الرسول أن يعلمنا الواقعية في الحياة، فليس عجيبًا أبدًا أو غريبًا أن تفشل في أمر من الأمور، وليس بالضرورة أن تكون كل معاركنا، أو كل مشاريعنا ناجحة، لكن المهم ألاّ نغرق في العمل دون إدراك الواقع أنه غير قابل للتحقيق، وليس معنى هذا سرعة اليأس، ولكن الرسول بذل كل ما في الوسع، واستخدم كل وسيلة لفتح الحصن، ولكن الله لم يشأ، ولم ينجح المسلمون في فتحه، فقَبِل في واقعية جميلة جدًّا أن ينسحب.

وهذا فرقٌ كبير بين المصابرة وبين تضييع الوقت؛ إن المصابرة على أداء عمل أمر مطلوب، ولكن لا بد أن تكون هناك مؤشرات للنجاح، ولا بد أن تكون هناك مقاييس تشير إلى أن هذا العمل قابل للتحقيق، ولا بد أن تكون الخسائر أقل من الفوائد؛ فلذلك لا بد من المتابعة والملاحظة والتقييم المستمر. أما تضييع الوقت والاستمرار في عمل لا يمكن تحقيقه بالإمكانيات المتاحة، أو يتسبَّب في خسائر أكبر من الفوائد، فلا داعي للإصرار على الاستمرار في هذا العمل طالما أن هناك خسائر ضخمة.

ونحن نلاحظ كيف يُعَلِّم الرسول الصحابة ، فقد تركهم النبي يحاولون، وهو يعرف أن فتح الحصن صعب جدًّا، ولكنه تركهم ليعيشوا معه في واقعيته . ولما أيقن الصحابة صعوبة المهمة، ووافقوا على الرحيل، وهم راضون، قام الرسول ليفك الحصار، ويغادر الطائف وهو يضحك. سبحان الله!

هذه القيادة الهادئة تبثُّ الأمن والراحة في قلوب الجنود، ليس هناك انفعال ولا عصبية، ولا تحميل الآخرين أخطاء لم يعملوها، وليس هناك حالة غضب، ولا حالة يأس أو إحباط، ولا حالة من الحزن، ولا كلمة لو؛ لو كنا فعلنا كذا لكان كذا وكذا، فإنها تفتح عمل الشيطان، ولكن هناك هدوء أعصاب وثقة وقدرة على التكيف في كل الظروف.

الحكمة الإلهية من فك الحصار

والحقيقة أننا سعداء بعدم فتح الطائف، وفك الحصار عنها، ومن الممكن أن نستغرب هذا الكلام؛ لأن عدم فتح الطائف له فوائد من عدة أمور:

أولاً: لو فتحت الطائف في هذه الظروف الصعبة، والقتال الشرس، والمطاردة لهوازن وثقيف، ودار القتال في داخل الحصون، لقُتل فيها ما لا نتخيل، ولفقد الإسلام قوة هؤلاء جميعًا؛ لأن كل هؤلاء قد أسلموا بعد ذلك، ولو فتح المسلمون الطائف عَنْوةً لقُتلوا ولفقد الإسلام قوتهم، ولكان عاقبتهم النار، ولكان هذا أسوأ وأشد.

ثانيًا: كان هذا الانسحاب دون إتمام المهمة كما نريد، قد فتح لنا بابًا وسُنَّة نتبعها إن تعرضنا لنفس الموقف. فلو أصرَّ الرسول على عدم الانسحاب حتى يفتح الحصن، لكان في هذا حرجٌ كبير للأمة الإسلامية؛ لأنه سيكون لزامًا علينا ألاّ ننسحب، ولكن بهذا الفعل منه ترك الأمر لقادة المسلمين ولرأي الشورى، فإن رأى المسلمون أن الحصار يُجدي صبروا كما حدث في فتح خيبر، وإن رأوا أن الأمر غير مُجْدٍ، أو أن الخسائر ستكون كبيرة كما حدث في الطائف، فلهم في كلتا الحالتين أسوة في رسول الله .

الرسول يدعو لأهل الطائف بالهداية

ولنا وقفة مهمة مع موقف في منتهى الرقي من مواقفه وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة -والصحابة رضوان الله عليهم يملأ قلوبهم الغيظ لعدم التمكُّن من فتح الحصن-: يا رسول الله، ادعُ الله على ثقيف.