الجيش المصري تاريخ مجيد وحاضر يصون المستقبل
الأربعاء 16/أكتوبر/2019 - 11:36 ص
يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها؛ لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيم قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية، هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية التى أشرقت مع شمس الدنيا من «مصر» كفجر للضمير الإنسانى وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه- مفروضًا علينا- يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
سننتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدى التاريخ وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها.
معركة بيلان أو الباشاوات واستسلام قادة الجيش العثمانى وهروب الصدر الأعظم حسين باشا الباشاوات (الحلقة 17)
ليس أدل على نجاح الجيش المصرى على عسكر السلطان العثمانى محمود من التقرير الذى ذاع خبره في كل الولايات الشامية ومصر والسودان والحجاز، عن انسحاق جيش السلطان، ولتشابه نهايات المعارك التى خاضها الجيش المصرى ضد عسكر السلطان محمود، وقبل السرد الوافى لسير معركة بيلان أجد من المتعة في إعادة قراءة التاريخ القريب ما يتشابه وحاضرنا العربى، فبعد أن أتم الجيش المصرى إنقاذ الأراضى السورية من بطش العسكر العثمانيين، جاء إلى إبراهيم باشا كل من مفتى بيلان واثنين من رؤوسها الأكابر: أحمد أفندى الحاج إسماعيل أغا بالكتاب التالى نصه: «يا صاحب السعادة.. الفرح الذى دخل على قلوبنا بوجودكم لهو فرح عظيم ينسينا جميع الآلام التى أصابت مدينتنا مدة وجود جنود الأعداء فيها، فهؤلاء الجنود لم يبقوا على شىء، فمنازلنا وأموالنا ومواشينا وغلالنا نهبت، ولجأنا إلى الجبال وقاية لحياتنا، ومن هذه الجبال رفعنا الدعوات لنصر جيوشكم ولنجاح مقاصدكم في إنقاذ البلاد».
ولم يتوقف الأمر عند إرادة القيادات الشعبية والدينية، بل تجاوزه إلى القائم على إدارة بيلان بنفسه، حيث أرسل كتابا إلى إبراهيم باشا يؤكد معانى الرعية في شمال الشام: «منذ عشرين عاما ونحن نود الانخراط في سلك خدمة عزيز مصر ولم نتوان على رفع الدعوات لنجاح بيتكم الكريم، حتى أسعدنا الحظ بأن وصل إلينا خبر وصولكم إلى هذه البلاد التعسة وتخليصها من أيدى غاصبيها».
ونعود لوقائع المعركة التى أطلق عليها المؤرخون معركة الباشاوات السبع، الذين فروا أمام الجيش المصرى وتركوا وراءهم غنائم لا تحصى، إنما الأهم أنهم تركوا الجيش المصرى يعمل إرادته في أطراف ومؤخرة فلولهم المتشرذمة خلف قيادة باشاواتهم الهشة! ولم يختلف الحال في سير المعارك عما جرى في السابقات من المعارك، حيث زحفت جحافل الجيش المصرى الحديث في منتصف ليل 2 ربيع الأول 29 يوليو مرورا على جسر مراد باشا، حتى وصلت إلى مضيق بيلان وتوترت المعلومات الاستخباراتية بتحصن المشير حسين باشا ومعاونه محمد باشا خلف المضيق متمترسين خلف مرابض مدافعهم، وهنا أمر القائد إبراهيم باشا بتقدم الآلاى الثالث عشر من المشاة بقيادة اللواء حسن بك ومعه من الفرسان الآلاى الثامن ومعه خمسة من المدافع العظيمة على ميمنة المضيق، وسار القائد نحو الميسرة ومعه من البيادة الآلاى الثامن عشر والفرقة الثامنة وآلاى الحرس واثنا عشر مدفعًا، وتحفز باقى الجيش المصرى من الفرسان والمشاة والطوبجية في الجهات الأخرى من المضيق انتظارا لتطور الموقف للتدخل من عدمه، ويائسا حاول العدو العثمانى استغلال نيران مدافعه، لكن الآلاى الثامن من الجيش المصرى أسكتت مدافعه مدافع العسكر العثمانى بعد ساعة واحدة فقط، إلا مدفعا واحدًا ظل يناوش لقليل من الوقت، حتى احتلت قواتنا أعالى المضيق وصبت المدفعية الثقيلة غضبها على الجبناء الفارين تاركين وراءهم مدافعهم وأسلحتهم ومهماتهم عند بداية مغيب الشمس، التى أذنت بمعيب غطرسة العثمانيين نهائيًا من الشام.
ومع بزوغ الفجر الثلاثين من يوليو تقدم آلاى الفرسان يطارد فلول الباشاوات وهنا انضم عارف بك قائد الفرقة الثامنة عشر لعسكر السلطان العثمانى إلى إبراهيم باشا وأعلن ولاءه الكامل لجيش مصر، فولاه إبراهيم باشا إمارة الآلاى العشرين من المشاة، وهو من اعترف بأن عدد فرقته كان 2268 رجلا فر منهم الكثير هلعا من المصريين ومات العديد ولم يتبق سوى 1888 رجلا.
ولم يكن حال عليش بك كحال عارف بك، فقد فر الأول من اللاذقية ونجا بحياته من الأسر واستسلم من فرسانه ستون فارسا وستمائة رجل دخلوا جميعهم الإسكندرونة مستسلمين للجيش المصرى، وهنا خيّرهم القائد إبراهيم بين السفر لبلادهم أو الانضمام للجيش المصرى، وعندما علم عليش بك حسن معاملة الجيش المصرى لفرسانه أرسل حريمه وأسرته إلى قبرص واستقل سفينة إلى الإسكندرونة لإعلان الولاء للقائد إبراهيم باشا ومعه ستة مدافع.
واستمر الفرسان المصريون في أعمال العنف والمطاردة في مؤخرة الفلول الهاربة من بطش القتال المصرى، حتى استسلم منهم 1900 أسير عثمانى بعد فرار قاداتهم الباشاوات أو استسلامهم للجيش المصرى.
وتقدم أهل أنطاكية إلى الجيش المصرى مع بداية شهر أغسطس معلنين الانضمام للحكم المصرى طواعية، وعين إبراهيم باشا على بيلان خليل بك، وفر باشا حلب إلى ملاطيه وترك 39 مدفعا خلفه غنيمة للجيش المصرى، وأعلن أيوب بك خضوعه للجيش المصرى فأبقاه إبراهيم باشا على أورفة واليًا، وبلغت جملة غنائم الجيش المصرى في معركة بيلان أو الباشاوات الأتراك الفاريين 80 مدفعا وأسر وقتل ما يقارب 12 ألفًا من عسكر السلطان العثمانى في مقابل خسائرنا في بيلان 20 قتيلا وجريحا فقط.
وما زال المشير حسين باشا هاربا من لقاء الجيش المصرى، والذى ستأتى بتفاصيل وسرد أول معركة بحرية للأسطول المصرى، والتى أطلق عليها نوارين العدد التالى إن شاء الله.