جامعات الجيل الثالث
الأربعاء 13/ديسمبر/2017 - 10:42 ص
"ولأن الأفضل لا يستطيع أن يمضي وحيداً , فإن جامعات الجيل الثالث هي القادرة علي تحقيق انتاج المعرفة وصناعة تكنولوجيا وطنية.. "كتب الكثير خلال العقد الأخير عن المستقبل اللامع الذي ينتظر التعليم عن بعد وعن الحيز الكبير الذي يتوجب منحه لمصادر التعليم الإلكتروني, وانتشر عبر الإنترنت ما يعرف بالإنجليزية ب MOOC وهي مواقع تحوي مواد مكتوبة, مواد مصورة, مسائل وتمارين, بالإضافة إلى ملتقيات إفتراضية للنقاش وتبادل المعلومات..
وقد ذهب بعض الأختصاصيين للقول بأن عولمة التعليم ستؤدي إلى إختفاء التعليم العالي بصورته التقليدية خلال عقد أو إثنين, وفي المركز من ذلك التوقعات بإنحسار الحاجة إلى الحرم الجامعي بأبنيته وساحاته المحددة جغرافياً لصالح التوسع اللامحدود لإنتشار التعليم عبر الفضاء الإفتراضي.على الرغم من كل ما قيل, لا زال الحرم الجامعي يحتفظ ببريقه كإنعكاس لقوة تأثير عامل التواصل الإنساني المباشر سواء فيما بين الطلبة أو بين الطلبة وأساتذتهم..
وقبل عدة أعوام تنبأ البروفيسر الهولندي J.G. Wissema, وهو متخصص في الإدارة والريادة الأكاديمية ويمتلك شركة استشارية تحمل اسمه بالإضافة إلى مهنته الأكاديمية, بأن الجامعات بشكلها الحالي آخذة في الزوال ليحل مكانها تدريجياً نموذج جديد أسماه جامعة الجيل الثالث. وقام بتأليف كتاب يحمل العنوان “Towards the Third Generation University”.
جامعات الجيل الأول:
ظهر في العصور الوسطى معتبراً بأن هذه الجامعات انبثقت عن مدارس الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية في العصور الوسطى من أجل الدفاع عن الحقيقة, ومن ثم قامت بتأسيس بنىً أكاديمية للتعليم المنظم تهدف إلى نقل المعرفة كما تراها..
جامعات الجيل الثاني:
أدخل هذا النموذج البحث كعنصر إضافي للتدريس من أجل إكتشاف الطبيعة كهدف أساسي, وكرس أخذ القوانين العلمية بعين الإعتبار في الإنتاج الفكري. تشكلت هذه الجامعات من بنى علمية تخصصية (كليات) يقوم عليها أكاديميون لتخريج علماء ومهنيين. وقد انتشر هذا النموذج في بقاع جغرافية واسعة برؤى تحمل طابعاً محلياً مما فتح المجال لإستخدام اللغات المحلية في التعليم وبالتالي كسر احتكار اللغة اللاتينية للعملية التعليمية. معظم الجامعات في العالم لا زالت قريبة من هذا النموذج..
جامعات الجيل الثالث:
يتميز نموذج جامعة الجيل الثالث بإعتماده الأساسي على استثمار المعرفة الكيفية (know-how exploitation) من خلال الحاضنات التقنية وما شابه دون الإكتفاء بالتدريس والبحث العلمي, ويولي إهتماماً كبيراً لموضوع الريادة وإنتاج الرواد (entrepreneurs) بالإضافة إلى العلماء والحرفيين, معتمداً على الأساليب العلمية العابرة للتخصصات وتصميم مساقات خاصة تخاطب مواضيع منتقاة لها قيمة إضافية في السوق تسعى لتطوير المعارف والمهارات لجمهور منتقى من الطلبة والمهتمين..
كذلك فإن هذا الجيل من الجامعات يتميز بالحرص على النزاهة الأكاديمية, وهو منفتح على العالمية وعلى التعاون مع جهات متعددة وأهمها القطاع التقني والإنتاجي تحت شعار حتى الأفضل لا يستطيع أن يمضي وحيداً. وافضل مثال علي ذلك هو جامعة كامبردج التي تحوي ما يفوق ثلاثة آلاف شركة للتقنيات المتقدمة يبلغ عدد مستخدميها قرابة الستين ألفاً..
الهيكلية الإدارية والجانب التمويلي لجامعة الجيل الثالث:
المستوى التمويلي:
تعتمد هذه الجامعات في على أقساط الطلبة في تمويل كامل نشاطاتها التعليمية دون أن تتلقى في هذا المجال مساعدات مباشرة من الدولة التي تؤمن بدورها بالشراكة مع مؤسسات..
المستوى البحثي والتطويري:
ويتم تمويل النشاط البحثي بشكل أساسي عن طريق منح حكومية, ووقفيات, وبالشراكة البحثية مع القطاع الصناعي. ويتم الإستثمار من أجل تحويل مخرجات صناعة المعرفة إلى مدخلات تمويلية للجامعات مما يؤدي إلى نمو وتطور الجامعات التي تستثمر في البحث وإنتاج المعرفة. ولكنه في المقابل سيؤدي إلى إفلاس جامعات كثيرة لا تتبنى ذات النهج..
المستوى الإداري:
تدار جامعات الجيل الثالث بشكل حرفي إلى حد ما دون أن يعني ذلك الذهاب بالكامل إلى طريقة إدارة المؤسسات الصناعية. و في جامعات الجيل الثالث ينحصر دور رئيس الجامعة في تطوير الحرم الجامعي وإيجاد وقفيات تمويلية, أما نوابه فتتوزع بينهم الأدوار بحيث يتولى أحدهم موضوع نوعية التدريس وتطبيق التقنيات الحديثة في التعليم, ويتولى آخر موضوع البحث العلمي وتميزه, وتوكل إلى ثالث مهمة التعاون مع القطاع الصناعي واستثمار المعرفة في السوق, فيما يشرف رابع على النشاط المالي والإداري..
وهناك اربع قوي أساسية مطلوبة لدفع تحول جامعات الجيل الثاني إلي الجلل الثالث. وتتمثل هذه القوي في:
القوة الدافعة الأولى:
تتمثل في الحاجة إلى تمويل البحث العلمي بالشراكة مع القطاعات التقنية نظراً لإرتفاع تكلفته, وهو ما يصادف حاجة لدى تلك القطاعات التي تسعى للإستفادة من البنى التحتية والخبرات المتوفرة لدى الجامعات..
القوة الدافعة الثانية:
تتمثل في العولمة التي تساهم في كسر الإحتكار المنطقي للجامعات وتدفعها للتنافس في اجتذاب أفضل الطلبة وأفضل الكفاءات البحثية من أجل الإستثمار في إنتاج التكنولوجيا والمعرفة..
القوة الدافعة الثالثة:
تتمثل في التغير الحاصل في مواقف الحكومات والتي أصبحت تقتصد في تمويل النشاط البحثي وتوجه دعمها نحو تحويل الجامعات إلى حاضنات للإنتاج والإستثمار التقني..
القوة الدافعة الرابعة:
تنجم عن التغير الحاصل في طبيعة البحث العلمي الذي أضحى بيني التخصص مما يستلزم تغييراً في الهيكلية التقليدية المتمثلة في الكليات وإفراد مساحة أكبر للمعاهد ومراكز البحث..
ونتمني في مصر ان تتحول معظم الجامعات الحكومية والخاصة إلي جامعات الجيل الثالث القادرة علي انتاج المعرفة والتكنولوجيا كمخرجات للبحث العلمي المتطور الذي يتعرض للمشكلات الوطنية والعالمية الملحة ودراستها علي مستوي العلوم الاساسية والتطبيقية قبل الخروج بابتكارات ممكن تسويقها..
وكلي أمل في أن تساعد البنود التي تم صياغتها واعتمادها في الاستراتيجية القومية للبحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية في مصر - والتي شرفت بالاشتراك فيها - في تحقيق هذا التحول المطلوب وبقوة في مصر من اجل احداث نهضة تنموية تشارك فيها الجامعات والمراكز البحثية بما تمتلكه من مقومات بنية تحتية وطاقات بشرية تستطيع ان تنتج المعرفة وتسوقها للاجيال القادمة .
مع تمنياتي للجامعات المصرية بكل التوفيق والتميز في التعليم والبحث والابتكار والتسويق وصناعة تكنولوجيا وطنية ...
تحياتي
د. محمد لبيب سالم
كلية العلوم جامعة طنطا