قهرنى أبى وزوجى وأخى
كان من المفترض كتابة هذا المقال منذ حوالى عشر سنوات ، عندما التقيت بسيدة فى العقد الثالث من عمرها، وكانت سيدة جميلة لا ينقصها شئ من متاع الحياة ، الزواج والذرية والعمل ، ولكن وجدت فى عينيها لمحة حزن ، وشرود ذهنى كلما اختلت بنفسها لم يقدر الجمال أن يخفي كل ذلك ، تواصلت معها كثيراً بحكم العمل ، وفى كل مرة ألتقى بها أود سؤالها لماذا ألمح الحزن فى عينيكِ ؟ وكنت أخشى أن أفقد علاقتى بها بسبب تدخلى فى أمور شخصية لا تعنينى فى شئ .
ولكن لأننى أحببتها كثيراً ، لهدوئها الملحوظ
، واتزانها الانفعالى ، وقدرتها على التواصل مع الحياة رغم ما بها من آلالام وأحزان
. هذا ما أدركته منذ أن وقعت عينى على تلك المرأة الحسناء .
وأخيراً تملك منى الفضول وسألتها ، لماذا
تقاومى حزنك طوال الوقت ؟
الغريب فى الأمر رغم مباغتتى لها بالسؤال دون
تمهيد ، إلا أنها لم تستغرب من سؤالى.
وأجابت بهدوء شديد لم أراه على إنسان من قبل
: قهرنى أبى وزوجى وأخى .
لم أفهم المقصود من العبارة فى هذا السياق ،
ولكن لم أسألها ثانيةً ، لأننى وجدتها تستطرد قائلة
ألم تسمعى عن معاناة المرأة المقهورة فى
حياتها ، فأنا واحدة من تلك السيدات اللاتى قهرها الرجل فى صورة الأب المتسلط الذى
يبث الرعب والخوف داخل المنزل منذ وجودنا فى الحياة ، فلا أتذكر أن جلس أبى معى
ليدرس مشكلاتى ، أو يُسدى إلى بالنصائح ،أو يرمقنى بنظرة عطف ويقبلنى ، ويعرف ماذا
فعلت طوال اليوم ، لكنه مثل الرجال الذين يستهويهم الجلوس خارج البيت أكثر من
المنزل ، وعندما يتواجد فى المنزل يكون البيت مُسخراً لراحته فقط لا لبث الراحة
والطمأنينة والاستقرار للبيت لوجوده معنا على الأقل. ومن ثم كرهنا وجوده بالمنزل
لأنه يزيدنا ألماً وتسلطاً وأوامر ، واستخدام العنف اللفظى والبدنى والمعنوى علينا
وعلى أمى المسكينة التى تلبى له كل شئ ، حتى أصبحت نسخة منه فى الجفاء والقسوة
والرعب والتخويف به فى كل وقت وحين .
وعندما كنت أسمع عن وصايا الحكيم لقمان ، أو
أشاهد البرامج التلفزيونية عن كيفية تربية الأبناء كنت أضحك وأبكى فى نفس الوقت ،
وأقول لنفسى سنظل أسرى الكلام النظرى والتوصيات والينبغائيات فقط . تذكرت عندما
وضعوا الخط الساخن لشكاوى الأبناء من قسوة الآباء عليهم ، وشاهدت أحد البرامج
التلفزيونية عندما اتصل طفل بمذيع يشكو أنه اتصل بالرقم الخاص بالشكاوى ليشكو من
والده والضرب المبرح الذى ألم به أعجزه عن الحركة ، فرد عليه شخص وقال له ( أقفل
السكة يا ولد يا قليل الأدب هتشتكى والدك ) !!!!!!
وعندما أصبحت فى بدايات العقد الثانى من
العمر تقدم لخطبتى الكثير من الشباب ، ولأننى لم أتعود على اتخاذ القرار منذ
ولادتى ، ولأن والدى العزيز رغباته أوامر قام الأب باختيار الزوج .
وكانت الزيجة التى استقرت حتى الآن ، أمام الناس
والمظاهر المعتادة ليس هناك مشاكل أو خلافات زوجية ، ووجدت نفسى أمام صورة أخرى من
أبى ، ورغم انتقادى لتصرفات أمى واستسلامها لكل تحكمات أبى ، وجدتنى أفعل نفس الشئ
مع أولادى ، ومع زوجى ، أصبحت نسخة من أمى .
توفى رمز الأسرة الأب ، وأصبحت أمى لا حول
لها ولا قوة ، فقهرها أخى ، وقام بفرض التعليمات عليها ، ليس فقط عليها وحدها بل
امتد الأمر إلينا جميعاً ، فكل أوامره تسربت إلينا فى كل شئ ،
وأصبح نسخة من الأب المتسلط الذى يضع لنا
القواعد ورخصة التعامل مع أمى ، ومع إخواتى ، والتحكم فى الأمور المالية ،
والزيارات وخلافه .
وأصبحت إلى الآن محاصرة بصورة الأب الغائب
الحاضر فى شخص زوجى وأبى ، وصورة أمى التى تملكتنى فى كل شئ ، وأصبحت شخصية خانعة
وخاضعة مثلها كى يكون شكلى أفضل وحياتى مستقرة وأجمل من وجهة نظر الجميع إلا أنا .
هذه كل الحكاية يا صديقتى العزيزة . استمعت
إلى قصتها باهتمام ووجدت نفسى شاردة الذهن حتى انها كانت تكلمنى ولم أنتبه إليها ،
إلا عندما وضعت يداها على كتفى وقالت لماذا أنتى شاردة ؟
ربطت على كتفها بشدة ، وقلت لها أنتى إنسانة
شجاعة وقوية جداً ، وتخفى الكثير وتتألمى بصمت ، بدون أن تقصدى يا عزيزتى لمستى فى
الكثير من الجوانب التى عشتها مثلك تماماً .
ولكنى أقول لك أنتى لم تُقهرى من أحد إلا من
ذاتك ، نعم عندما يقهر الشخص ذاته يسمح للآخرين دوماً بقهره ، وهذه عتبة فارقة .
الطاعة والحب ليسا مرتبطين بالقهر والخضوع
أورخصة للسماح لغيرنا بتشكيل وعينا وحاضرنا ومستقبلنا بالخوف والرعب . الأمر بحاجة
إلى وقفة مع النفس لا إذلالها وخضوعها
للآخرين ، ولكن إعمال العقل والنقد المستمر لكل شئ والوصول إلى اليقين بالعقل لا
عن طريق الآخرين .
حقيقة سنوات العمر تضيع ، وحياتنا تضيع نتيجة
لإعطاء عقولنا وذواتنا للآخرين كى يشكلوها لنا.
والنتيجة معروفة عزلة وتوحد واكتئاب وإحباط
من الجميع ، وضياع المستقبل .
قلت لصديقتى كلنا بحاجة إلى تلك النصيحة لا
أنتى وحدك يا صديقتى الشجاعة الأنثى الرقيقة .
*كاتب
المقال
أ.م.د فاطمة الزهراء سالم محمود
أستاذ أصول التربية المساعد
كلية التربية -جامعة عين شمس