أم كلثوم ترتدى "الزى السودانى"..!
بعد نكسة يونيو 1967، انعقدت بالخرطوم قمة عربية فارقة، خرجت باللاءات الثلاثة الشهيرة: لاصلح، ولا تفاوض، ولااعتراف بإسرائيل، إلا بعد انسحابها من الأراضى العربية المحتلة، تنفيذا لقرار مجلس الأمن 242. وتصالح الزعيم جمال عبدالناصر والملك فيصل عاهل السعودية، بعد طلاق بائن، فانطفأت «حرب اليمن» ولملم العرب شتاتهم، أمام العدوان الغاشم. فى هذه الأثناء، شرعت السيدة أم كلثوم بإقامة حفلات، لدعم «المجهود الحربى» بمصر وخارجها، لم يضع وزير الإعلام السودانى عبدالماجد أبوحسبو - ذو الميول الوحدوية، بين شعبى النيل- الفرصة، وجه دعوة إلى «كوكب الشرق» تلقفتها بفرح غامر.
حلت «الست» بالخرطوم
فبراير 1968، حظيت باستقبال أسطورى، أقامت حفلين بمسرح «أم درمان» ارتدت خلالهما «الزى
السودانى» تكريما لأهل السودان واعتزازا بمواقفهم. غنت روائعها: «هذه ليلتى» «الأطلال»
«فات المعاد». زارت معالم الخرطوم، ومدرسة للبنات، تبرعت بـ 1000 جنيه. فى طريق عودتها
حملت دواوين لشعراء سودانيين، غنت منها «أغدا ألقاك» للشاعر الهادى آدم، بألحان موسيقار
الأجيال محمد عبدالوهاب. وظلت «أم كلثوم» تذكر أهل السودان بتقدير شديد، قائلة: «السودانيون
دول أهلنا، إحنا وهما إخوات، لأننا إحنا الاتنين ولاد النيل».
دون مبالغة كانت
زيارة «الست» فتحا مبينا، فى علاقات الأشقاء، تضاءلت بجوارها الجهود الدبلوماسية المصرية،
خلال سنوات طويلة، وضعت سيدة الغناء العربى يدها على مفاتيح الشخصية السودانية وفهمت
«حساسياتها» احتراما لائقا ومودة مقيمة، فاقتحمت القلوب والعقول قبل الأسماع، حتى قال
لها شاعر سودانى: «أنت والنيل صنوان، أنت تفيضين غناء، وهو يفيض ماء..».
تذكرت زيارة «كوكب
الشرق» للخرطوم، فى ظل ما تشهده العلاقات المصرية - السودانية من «انحسار» وتشويش،
المؤلم أن التوتر تعدى الحكومات، إلى الشعوب. تطفح وسائل التواصل الاجتماعى بالكراهية
والازدراء والمرارات الحقيقية والمتوهمة من الطرفين، يغذيها سوء الفهم النابع من «فرط
الحساسية السودانية» لاسيما تجاه مصر، و«الشوفينية المصرية» التى تتبدى أحيانا.. خاصة
بعد زيارة الشيخة موزة والدة أمير قطر الحالى وزوجة السابق، إلى «أهرامات البجراوية»
شمال السودان، حيث كتبت بسجل الزوار: «السودان أم الدنيا»! لتشعل تلك العبارة شرارة
حرب إعلامية مصرية - سودانية، أسهم فى تأجيجها ميراث من الجروح المتقيحة وجوقة «جهلاء»
يتصدرون المشهد الإعلامى، على جانبى خط عرض 22، عبأوا الفضاء بعفن السخرية والتعالى،
دون اعتناء بالوشائج الأزلية بين الشعبين، بحكم الجغرافيا، قبل التاريخ.
يبدى السودانيون
امتعاضهم من ضآلة «الإدراك المعرفى» لدى المصريين بالشأن السودانى، بينما يعرف السودانيون
«حوارى» القاهرة، مثل «أولاد البلد» كما أن الاستعمار البريطانى غرس بذور الشقاق والفتنة،
يوقظها نظام الإنقاذ الإخوانى، من الكمون أحيانا ويتعهدها بالرعاية.
فى العقدين الماضيين،
مرت علاقات البلدين بمنعطفات حادة واستفزازات خطيرة ومكايدات لا لزوم لها، من «عينة»
محاولة اغتيال مبارك بأديس أبابا، إيواء جماعات الإرهاب الإسلاموى، وتدريبهم ودفعهم
عبر الحدود، لزعزعة الاستقرار بمصر، أودعمهم فى ليبيا - بالتعاون مع قطر وتركيا - والانحياز
إلى إثيوبيا فى قضية «سد النهضة» برغم إضراره بدولتى المصب، أيضا الزعم بتدخل مصرى
فى جوبا، وحظر المنتجات المصرية..المطالبة بـ «حلايب المصرية» مع أنه تمت التضحية بأكثر
من مليون قتيل سودانى عقب انفصال جنوب السودان، لتكون حلايب «مسمار جحا» وكأن مصر
«شريرة» لا تريد خيرا بالسودان، بينما هى تستضيف 5 ملايين سودانى، لهم حقوق أشقائهم
المصريين.. يزداد الوضع قتامة، أن دولا عربية تشجع الخرطوم للقيام ببعض أدوار القاهرة،
لامتناع الأخيرة عن الانسياق لمخططاتها العدوانية.
كل هذا يجب ألا
يلهينا عن ضرورة الحرص على بناء علاقات «ممتازة» بين أبناء شعب وادى النيل، جنوبا وشمالا،
على أرضية الندية والتكافؤ، لا المنافسة والكراهية، واتخاذ خطوات «جذرية» لتفويت الفرصة
على المخربين. ومن ثم علينا الأخذ بزمام المبادرة، والعبور للشاطئ الآخر، بمزيد من
الفهم والاحترام للمجتمع السودانى المتنوع الإثنيات والمشارب، وحفر مسارات التعاون
الثقافى والاقتصادى والسياسى. غير ذلك ترف لايمكن لأى جانب احتماله، السودان منا، ونحن
منه: قومية ولغة ودينا وإنسانية ومصالح.. حاضر البلدين متصل بالضرورة، مثل ماضيهما،
طبقات جيولوجية عابرة للأزمنة، قدر لا فكاك منه، والضوضاء الحالية محاولة للإلهاء والابتزاز،
ينبغى أن تتوقف.
يقول الدكتور جمال
حمدان: «مصر اليوم إما أن تحوز القوة أو تنقرض، إما القوة وإما الموت، فإذا لم تصبح
مصر قوة عظمى تسود المنطقة، فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما، كالقصعة: أعداء وأشقاء
وأصدقاء وأقربون وأبعدون»..!!.