من عجائب الدنيا: مرتبات أساتذة الجامعات والمعلمين في مصر
من المؤكد أن أساتذة الجامعات فى مصر مظلومون ويعانون من شذف العيش وضيق ذات اليد وفى نفس الوقت يعملون فى ظروف صعبة، الأمر الذى دفع الكثيرين إلى الهجرة إلى جامعات عربية حيث يتقاضون أضعاف المرتبات التى كانوا يتقاضونها فى مصر. وفى الواقع فإن العدد الأكبر من الأساتذة المصريين اختاروا أو اضطروا إلى البقاء وفضلوا العمل داخل أرض الوطن.
وكلما راود الأمل هؤلاء أن أحوالهم سوف تتحسن سرعان ما يكتشفون أنهم
كانوا يطاردون السراب. فالوزير السابق وعدهم بأن المرتبات بعد ثورة 25 يناير سوف تتحسن
فسالت لعابهم وقرروا أن يؤدوا واجبهم تجاه الوطن بل قرر بعضهم التبرع بجزء من راتبهم
على اعتبار أن أحوال البلد الاقتصادية ليست فى أفضل أحوالها وأن خزائن الدولة باتت
خاوية على عروشها. لعل الكثيرين لا يعرفون أن الدولة تتكبد وتستثمر الكثير من المال
فى سبيل إعداد عضو هيئة تدريس الذى يعانى الأمرين لإتمام دراسته سواء داخل الوطن أو
خارجه ثم سرعان ما تتخلى الحكومة عنه وتتركه فى العراء يعانى برد الشتاء ويصرخ من حر
الصيف، تماما كمن يبنى مصنعا ثم يترك آلاته يعلوها التراب وتتعرض للصدأ والتلف.
لا نبالغ إذا قلنا
أن أستاذ الجامعة فى مصر يفنى عمره فى سبيل العلم ولا يتوقف عن التحصيل حتى يقضى نحبه.
فالمعيد يضطر أن يشد الرحال إلى دول أوروبية أو أمريكية أو أسيوية للحصول على الدرجة
العلمية ليعود بعدها إلى أرض الوطن ويساهم فى نهضته. وكذلك فعل الزملاء الذين انهوا
سنوات دراستهم فى أرض الوطن فسهروا الليالى وانتقلوا بين المكتبات فى المدن المختلفة.
وللعلم فإن كفاح عضو هيئة التدريس لا ينتهى بالحصول على الدرجة العلمية لأن عضو هيئة
التدريس الجامعى لا يرقى إلى الدرجة الأعلى إلا بناء على أبحاث يعدها وينشرها فى مجلات
محلية أو إقليمية أو دولية. وفى الغالب الأعم فهو يقوم بالإنفاق على هذه الأبحاث من
حر ماله على اعتبار أن المبالغ المخصصة للبحث العلمى لا تكفى لانجاز بحث محترم.
لعل البعض يتساءل
لماذا تجنى دول عربية ثمار الجهود التى يبذلها أبناؤنا فى سبيل الحصول على شهادات رفيعة
المستوى؟ وبعبارة أخرى، لماذا يهرع الأساتذة المصريون للعمل فى دول عربية كالسعودية
والكويت والإمارات العربية وقطر؟ هنالك سببان يدفعان الأساتذة المصريين للهروب خارج
الوطن: الظروف الإدارية الصعبة التى يعملون فى ظلها والظروف المادية المتمثلة فى المرتب
الهزيل الذى لا يعكس الوضع الاجتماعى. وبالنسبة للسبب الأول فمن المعروف أن قلة قليلة
هى التى تتفهم هذه الظروف وتدرك المصاعب التى يواجهها أساتذة الجامعة طوال العام، وهى
ظروف تحول دون تحقيق التطور الذى ننشده فى التعليم الجامعى. قد لا يعرف البعض أن أستاذ
الجامعة يتولى إلقاء المحاضرات النظرية والدروس العملية طوال العام وأحيانا يتنقل بين
كليات مترامية الأطراف حاملا حقيبته من محطة قطار إلى محطة أخرى ثم تأتى الامتحانات
بنواتها التى صارت بعبعا ليس فقط للطلاب وأولياء الأمور ولكن أيضا للأساتذة حيث الخوف
والتوجس من تسرب الامتحانات وتصيد الأخطاء وتصفية الحسابات.
وإذا انتهت مرحلة
وضع الأسئلة على خير فإن الأستاذ يدرك أنه لم يجتز بعد مرحلة الخطر فهناك مرحلة تتعلق
باستلام كراسات الإجابة وتصحيحها فعليه أن يحصر هذه الكراسات قبل تسلمها والتأكد من
الأختام التى تزين الغلاف الخارجى. وقد ينشط البعض فى تلك المرحلة بهدف إلحاق الضرر
والأذى بزملائهم لتصل الأمور إلى حد السرقة المتعمدة لحفنة من كراسات الإجابة وإرسالها
لرئيس الجامعة لتبدأ مسيرة تحقيقات تقضى على ما تبقى من شهور الصيف التى ينتظرها الأستاذ
بفارغ الصبر ليقضيها مع أسرته وقد يحالف الحظ الأستاذ ليخرج سالما من هذه المرحلة معتقدا
بأنه فى سبيله إلى قضاء أجازه خالية من التحقيقات إلا أنه سرعان ما يقع فى شرك آخر
يتعلق بأعمال الكنترول والتى تتطلب الدقة وصفاء الذهن وهى صفات استنزفها الأستاذ فى
المراحل السابقة. ومن المعروف أن أى خطأ مادى— كأن يخطئ فى جمع الدرجات— قد يفتح باب
الجحيم أمام أعضاء الكنترول وتدفعهم لشد الرحال إلى المصيف فى معية المحقق القانونى.
وقبل أن تنتهى التحقيقات الصيفية يدرك الأستاذ أن عليه أن يبدأ عاما دراسيا جديدا قديما.
هذا السبب كاف لدفع الأساتذة لترك جامعاتهم والبحث عن عمل فى جامعات عربية.
السبب الثانى لهجرة
الأساتذة إلى جامعات عربية يرتبط بالظروف المادية التى تتلخص فى المرتب الهزيل الذى
لا يتناسب مع الوضع الاجتماعى. فمرتب الأستاذ فى هذه الدول يفوق بمراحل المرتب الذى
يتقاضاه الأستاذ فى الجامعات المصرية. قبل أن نتطرق إلى مرتبات الأساتذة فى جامعات
عربية فدعنا نتعرض لما يحدث فى مصر. لا شك أن المرتب الشهرى الذى يتقاضاه أستاذ الجامعة
فى مصر هزيل وضعيف ولا يكاد يكفى قوت يومه. من المعروف أن مرتب المعيد 1100 جنيه والمدرس
المساعد 1400جنيه، والمدرس 1800جنيه، بما يعنى أن مرتب المعيد أقل من مرتب "عسكرى"
ومرتب المدرس الذى قضى أكثر من 10 سنوات فى الجامعة لا يصل لمرتب خفير ممتاز، خاصة
بعد تعديل قانون الشرطة حيث يحصل أمين الشرطة على أساسى مرتب قدره 650 جنيه. أما الأستاذ
فى جامعة حكومية مصرية فلا يتقاضى سوى ثلاثة أو أربعة آلاف لحلوح شهريا أى حوالى36
ألفا أو 48 ألف جنيه سنويا.
ومما لا شك فيه
فإن هذه المرتبات الهزيلة أدت إلى معاناة أساتذة الجامعة. لقد ذكر لى أحد الزملاء أن
زميلا طرق باب القاعة التى يلقى فيها محاضرة ولما فتح له الباب فوجئ بالزميل يسأله
إذا كان معه 500 جنيه لأنه يمر بظروف مالية صعبة. وكما قال لى أحد الزملاء أن نجله
لم يمض على تخرجه فى كلية عسكرية سوى أربع سنوات إلا أن راتبه الذى يبلغ أكثر من
3700ج يفوق راتب والده الأستاذ الجامعى الذى يعمل منذ ثلاثين عاما. وفى مقال منشور
فى اليوم السابع بتاريخ 4 مايو الماضى تحت عنوان "إلى متى تواصل الدولة إهانة
أساتذة الجامعات؟ نعى الدكتور رضا عبد الســـــلام الأستاذ بحقوق المنصورة راتبه الذى
يبلغ 2518 جنيها مصريا حيث لا يكاد يكفى لتغطية مصاريف الدروس الخصوصية لنجليه بينما
مرتب زميله فى القضاء تجاوز 20 ألف جنيه. وهنا لا يتحدث أستاذ الحقوق عن أساتذة الكليات
ذات الأعداد الكبيرة وهى كليات محدودة كالتجارة والحقوق بل يتحدث عن الكليات ذات الأعداد
الصغيرة كالتربية والزراعة والعلوم حيث يمكن مشاهدة احد أساتذتها يسير على قدميه مرتديا
ملابس ممزقة ويحمل كيسا اسودا فى يديه. وهذا مشهد يعبر عن قمة المأساة التى يعيشها
معظم أساتذة الجامعات فى مصر.
والآن دعنا نتجول
فى جامعات الخليج للتعرف على أوضاع هيئة التدريس بها ولعل هذه الجولة تساعدنا فى فهم
الدوافع التى تؤدى إلى هجرة أبنائنا من أساتذة الجامعة للعمل فى هذه الجامعات. لقد
طالعت مقالا لأستاذ بجامعة سعودية منشورا فى صحيفة الرياض السعودية تحت عنوان
"رواتب أساتذة الجامعات" حيث يطالب فيه بتحسين أوضاع أساتذة الجامعات فى
المملكة وذلك لأن المرتبات الحالية لا تغطى متطلبات الأساتذة، متطلبات تتعلق بتحديث
المعلومات من خلال اقتناء أحدث الكتب والمراجع فى مجال التخصص. الغريب أن الأستاذ الجامعى
السعودى يعبر عن عدم رضاه بما يتقاضاه من مرتب حيث يبلغ المرتب الشهرى للأستاذ المساعد
فى الجامعات السعودية ما يوازى 14300 جنيه مصرى والأستاذ 20600 جنيه. وبالفعل فقد صدر
أمر ملكى فى 16 يوليو 2005م بزيادة مرتبات أعضاء هيئة التدريس بالجامعات السعودية حيث
بلغت الزيادة 15% أى بزيادة تعادل ألفى جنيه شهريا للأستاذ المساعد وثلاثة آلاف جنيه
للأستاذ. أما فى الكويت فإن الأستاذ المساعد يتقاضى مرتبا يعادل 41719 جنيها مصريا
ويتقاضى الأستاذ مرتبا يعادل 53 ألف جنيه. وفى الإمارات العربية يبلغ مرتب الأستاذ
المساعد حوالى 26800 جنيه والأستاذ يزيد مرتبه ليبلغ 30800 جنيه وفى قطر يبلغ مرتب
الأستاذ المساعد 34 ألف جنيه والأستاذ أكثر من 37 ألف جنيه. من المفيد أن نشير أن هذه
المرتبات الخليجية هى فى الواقع مرتبات شهرية وليست سنوية.
لعل البعض يتساءل
قائلا إن هذه الدول الخليجية غنية ولديها موارد هائلة وتعتمد على تصدير البترول ولديها
ميزانيات ضخمة تساهم فى ارتفاع مستوى المعيشة. لذلك لا يجب أن نقيس أوضاعنا الاقتصادية
بهذه الدول. وللإجابة على هذا التساؤل يكفى أن نشير إلى أوضاع الأساتذة الجامعيين فى
دولة (الأردن) ذات موارد بسيطة، موارد تقل كثيرا عن مواردنا. الجدير بالملاحظة أن الأساتذة
الأردنيين يعبرون عن عدم رضاهم عن المرتبات التى يتقاضونها فى الجامعات الأردنية. وإذا
سألت أحدهم عن تلك المبالغ يجيب قائلا إنها مرتبات شهرية تتراوح بين 7800 جنيه و15
ألفا (بالجنيه المصرى طبعا) شهريا.
من سخرية القدر
أن ينشأ ويستمر هذا الوضع المتردى لأوضاع هيئة التدريس فى الجامعات المصرية فى ظل هيمنة
أساتذة الجامعة على أركان الحكومة ومجلسى الشعب والشورى فى عهد الثورة وعهد ما قبل
الثورة. ففى عهد ما قبل الثورة كان أساتذة الجامعات يتبوأون ارفع المناصب مثل رئيس
مجلس الشعب ورئيس الوزراء ووزراء مجلس الشعب والشورى والمالية والإدارة المحلية وحتى
مجلسى الشعب والشورى كان يضم الكثير من أساتذة الجامعات. وفى عهد الثورة فإن رئيس مجلسى
الشعب والشورى أستاذان جامعيان وكذلك الحال بالنسبة لرئيس الوزراء ووزراء المالية والتعليم
العالى. كما يضم مجلسا الشعب والشورى فى صفوفهما الكثير من أساتذة الجامعات. لعل هذه
الظاهرة تحتاج إلى تحليل المحللين وتنظير المنظرين.
وفى الخاتمة نقول
إن حال أى بلد لن ينصلح إلا إذا تم إصلاح حال المعلمين والأساتذة.
·
هذا المقال تم نشره في عام 2012 ونعيد نشره لان الحال
علي ما هو عليه حتي هذه اللحظة