زيارة الملك سلمان تعيد روح يناير 46
قبل 70 سنة وبالتحديد في العاشر من يناير
عام 1946 اتخذت مصر كامل زخرفها وازينت حكومة وشعباً وأرضاً ومدناً وشوارع وانتشرت
أقواس النصر في القاهرة، ووقتها كان لمصر ملك عظيم يمتد من البحر المتوسط وحتى الحبشة
أي منبع النيل وحتى مصبه، وكانت حدودها كينيا وتنزانيا وأوغندا وأفريقيا الوسطى وتشاد
وبرقة غرباً وفلسطين والبحر الأحمر شرقاً، في هذا اليوم كانت مصر على موعد لاستقبال
رجل عظيم قال عنه عبد الرحمن باشا عزام الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية:"حين
تستقبله مصر اليوم إنما تستقبل رجلاً تمر حقب طويلة ولا يجود الزمان بمثله" إنه
صقر الجزيرة ورمز الوحدة في ذلك العالم المتناحر المتقاتل الملك المؤسس، الملك عبد
العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ملك المملكة العربية السعودية.
وصل الملك عبد العزيز إلى ميناء السويس
على ظهر اليخت الملكي المحروسة الذي تزين كما لم يتزين من قبل ليقل شخصية بقامة وقيمة
الملك عبد العزيز وتقدمه الطراد الملكي "فاروق" ومن خلفه الطوافة الملكية
"فوزية"، عاشت مصر هذه الأجواء على مدى اثني عشرة يوماً زار خلالها الملك
عبد العزيز السويس والقاهرة وأنشاص والإسكندرية والتي علماء وطلاب جامعة القاهرة والمثقفين
وأعضاء مجلس نقابة الصحفيين برئاسة نقيبها فكري أباظة، وقد حل ضيفاً عزيزاً واحتفى
به ملك مصر والسودان الملك فاروق الأول أيما احتفاء وأطلق اسمه على شارع كرني النيل
بالمنيل الممتد حتى قصر المانسترلي، المقر الأول لجامعة الدول العربية الناشئة قبل
عام واحد من تلك الزيارة.
أشعر الآن وبعد 70 عاماً أنني أعيش هذه
الأجواء مع زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز التاريخية والتي
تستعد لها مصر منذ فترة طويلة بل وربما المنطقة بأسرها والعالم يتابع باهتمام بالغ
تلك الزيارة التي تحمل من الزخم والدلائل الكثير فهي الزيارة الأولى للملك سلمان منذ
توليه مقاليد الحكم في يناير من عام 2015، وهو العاشق لمصر المحب لشعبها وتاريخها وحضارتها
وهو الناهل لهذا الحب من مربيه الأول الملك عبد العزيز الذي كان يعرف قدر مصر وقيمتها
ومدى أهمية أن ترتبط القاهرة بالرياض ارتباطاً بحبل متين لا تنفصم عراه، فهما قلب الأمة
العربية، فشبه الجزيرة العربية مهبط الوحي ومهوي أفئدة الأمة الإسلامية،ومصر الكنانة
مهد الحضارة وصاحبة النسب والصهر مع شبه الجزيرة العربية التي نجح الملك عبد العزيز
في جمع شتاتها وتوحيد قبائلها المتناثرة المتناحرة وربط بينها برباط مقدس حفظ لها وحدتها
وجعلها صامدة حتى اليوم في وجه كل العواصف.
يحمل الملك سلمان بن عبد عبد العزيز جينات
شخصية تاريخية بامتياز لأنه إلى جانب التربية والتنشئة على يد المؤسس بمنظومة قيمه
ورؤاه، فهو مثقف من طراز فريد قارىء نهم متابع لما تنتجه العقول هاضم لما في بطون كتب
التاريخ والتراث منذ النشأة الأولى ولديه مكتبة ليست لزوم الوجاهة، وإنما للقراءة والمعرفة
والاطلاع وهو صديق للعقول وأصحاب الفكر والثقافة والإعلام، يعرفهم جيداً ويعرفونه يستمع
إليهم يناقشهم ويناقشونه وكان مجلسه بالرياض وقت أن كان أميراً لها أكثر ما عامر به
تلك العقول في الفكر والثقافة، وفوق هذا هو قارئ لكتاب الله الكريم متدبر لآياته قريب
من علماء الأمة وفقهائها.
تجلى كل ذلك فيما اتخذه الملك سلمان بن
عبد العزيز من خطوات مبادرة لأنقاذ حالة الترهل التي أصابت الأمة العربية والتي أغرت
بها أعداءها بخاصة من الفرس المتربصين بها، وإسرائيل المتنمرة على أطرافها، وكل منهما
تنتظر لحظة إعلان وفاة الأمة العربية للانقضاض عليها، فكانت عاصفة الحزم قبل نحو عام
لقطع الطريق على التغول الإيراني الذي تمدد من قبل في العراق الذبيح وأراد التسلل من
البوابة الجنوبية لخنق الأمة العربية، فكانت عاصفة الحزم هى الرادع له وحجر العثرة
في طريق مطامعه، ولينتقل الملك سلمان بسياسة المملكة كي لا تصطف في طابور ردود الأفعال
وإنما المبادرة المحددة لأهدافها القادرة على
الدفاع عن مصالحها ومصالح أمتها، ومن عاصفة الحزم بالتحالف العربي إلى المبادرة التاريخية
الأخرى بإنشاء التحالف الإسلامي العسكري لمواجهة الإرهاب الذي ينهش في الجسد العربي
الإسلامي ويشوه الإسلام والمسلمين فجاءت هذه المبادرة لتعلن للعالم أن المسلمين باسم
دينهم وباسم الإنسانية يتحدون ويتحالفون لحرب هذا الإرهاب الذي يريد البعض أن يلصقه
بالإسلام، والإسلام منه براء، وكما كان النجاح حليفاً لعاصفة الحزم بعون الله سيكون
النصر حليفاً في المعركة مع الإرهاب.
إدراكاً من خادم الحرمين الشريفين لهذا
العمق وهذا التاريخ وتلك المكانة لمصر الكنانة تأتي هذه الزيارة التاريخية لتمثل خطوة
في رأيي لا تبتعد كثيراً عن خطوتي عاصفة الحزم والتحالف الإسلامي، فالقاهرة والرياض هما الضمانة الحقيقية لنجاح أي عمل عربي
أو إسلامي في مواجهة المؤامرات التي تحاك ضد أمتنا.
والمؤكد أن الشعب المصري سعيد بهذه الزيارة يترقبها ويبني عليها الكثير والكثير، ويرحب كل الترحاب بالضيف العزيز الكريم صاحب الدار، فمصر والسعودية جناحان لوطن واحد، هكذا يقول التاريخ وهكذا يحتم الواقع، فمرحباً سلمان الحزم والعزم والأمل.