الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم

غيروا «القِبلة» وارفعوا «الجِزية» عن شيوخ الأساتذة

الثلاثاء 27/أكتوبر/2015 - 02:56 ص
السبورة

معلومات كثيرة يتداولها أساتذة الجامعات هذه الأيام عن قرار بخفض مرتباتهم بنسبة 10%، عملاً بتوجيهات الجهاز المركزى للمحاسبات ووزارة المالية. بعض المسئولين بالجامعات أكدوا أن قرار خفض المرتبات سيتم تطبيقه على الأساتذة فوق الستين، ليتم خصم 20% من بدل الجامعة كضريبة كسب عمل، وأن تصرف لهم نسبة 60% من مكافأة الامتحانات فقط. وأشار الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة إلى أن الجامعة ستطبق فقط قراراً بخصم نسبة 10% فقط من بدل الجامعة للأساتذة فوق الستين، وليس من رواتبهم. وهناك من يؤكد أن الخصم عام، وسيتم بحق كل أعضاء هيئة التدريس، إعمالاً لإحدى مواد قانون الخدمة المدنية، كما أشارت بوابة الأهرام، فى حين أكد وزير التعليم العالى أن الوزارة لم يصلها ما يفيد بتطبيق قرار من هذا النوع!.

أياً كان الأمر، فقد قوبل القرار بقدر كبير من الاستهجان من جانب الأساتذة، خصوصاً الذين تخطوا الستين من عمرهم، وعبر أكثرهم عن استيائه، لأن الجسد الواهن فى الكبر لا يحتمل الطعنات. أفهم أن الدولة تعانى أزمة عجز فى الموازنة، ولا خلاف على أن حصد الضرائب ضرورى فى مثل هذه الأحوال، لكن المشكلة أن الحكومة لا تجد أمامها سوى «جيوب» القاعدة العريضة من المصريين لتفتش فيها، قناعة منها أن الموظفين -ومن بينهم أساتذة الجامعات- يعدون بالملايين، وبالتالى يمكن أن تشكل جنيهاتهم رقماً إجمالياً جيداً، فى وقت تستثنى فيه فئات أخرى من أى نوع من «التفتيش»، بل وتزيد لهم دخولهم، فى حين يصرخ الموظفون والعمال مطالبين بالعلاوة السنوية، دون أن يسمعهم أحد!. الدولة تضع عينيها على الطبقة الوسطى، والجمهرة الغالبة من أساتذة الجامعات تنتمى إلى الشريحة الدنيا لهذه الطبقة. وتقديرى أن مثل هذه القرارات التى تعتمد على مفهوم «الجباية» كان من الممكن أن تكون أخف وطأة لو كانت الدولة تكيل بميزان واحد مع الجميع، إذ كيف يعقل ألا يبتئس الأستاذ الذى تخطى الستين، وهو يرى الدولة تتراجع عن ضريبة الأغنياء، وضريبة الأرباح على البورصة، ولا تبدى أى جدية فى استعادة أموال المصريين المنهوبة من رجال مبارك وعائلته، بل وتنفق على «المخلوع» حتى اليوم، فى حين تميل عليه هو وغيره وتأخذ من جيوبهم.

كان من الممكن أن يكون قرار استنزاف جيوب أساتذة الجامعات، فى وقت كانوا يطالبون فيه بزيادة مرتباتهم، أخف وطأة أيضاً، لو أنهم وجدوا أن فئات غيرهم تعامل بالمثل، لكنهم يعاينون الزيادات فى البدلات والحوافز والمرتبات التى تنهال على فئات بعينها، فيصابون بالامتعاض والضيق، خصوصاً أن كل من ينتمى إلى هذا القطاع ينظر إلى نفسه على أنه الأكثر تفوقاً فى رحلة التعليم، بدءاً من الثانوية العامة، وحتى التخرج فى الجامعة، والتوظف فيها، تقديراً لتفوقه، ورغم قناعتى بوجود ثغرات عديدة فى نظامنا التعليمى، قد تؤدى فى بعض الأحوال إلى تفوق وهمى، إلا إننى لا أستطيع أن أهرب من موضوعية معيار الدرجات والنتائج الكمية، كأساس حسابى لمسألة التفوق، مع اعترافى بوجود أنماط عديدة من الخلل داخل الجامعات، وتسليمى بوجود عقليات خارج الجامعة، تستحق أن تكون داخلها بغض النظر عن المعايير الكمية للحكم على مسألة التفوق. لا أريد أن أستغرق فى هذه النقطة كثيراً، لكننى أؤكد من جديد أن الدولة التى تكيل بمكيالين فى التعامل مع مرتبات العاملين بها هى دولة «غير مُقنِعة» بحال. الدولة التى تفرض ضرائب على بدلات فئة وتعفى بدلات فئة أخرى، بل وتمنحها المزيد هى دولة «غير عادلة».

يسخر البعض من غضب الأساتذة ويسأل: وهل يوجد فى جامعاتنا علم أو تعليم حتى يغضب هؤلاء على تخفيض رواتبهم؟. لا أختلف على أن ثمة أوجه قصور كثيرة فى أداء الجامعات المصرية، وأن هناك تراجعاً فى مستوى الخدمة التعليمية، ومستوى البحث العلمى داخل الجامعات، لكن يبقى أن الأحكام المطلقة آفة من آفات العقل البشرى، لأن الأمور داخل الجامعة على هذين المستويين نسبية إلى حد كبير، هناك جامعات تمنح خدمة عالية، وأخرى متوسطة، وأخرى ضعيفة، ولم يزل عطاء الجامعة على المستوى البحثى قائماً، ربما شهد نوعاً من التراجع، لكن ذلك لا يمنع من وجود جهود بحثية متنوعة يمكن أن تفيد المجتمع أعظم فائدة، لكن المشكلة فى عدم وجود طلب عليها، فى ظل واقع ثقافى وأدائى يعتمد على الفهلوة والإلهام فى صناعة القرار، أكثر مما يعتمد على طلب العلم والمعرفة. ولو كان البعض يجد لنفسه مبرراً لمعاقبة أساتذة الجامعة على سوء الأداء، بتخفيض الجنيهات التى يقبضونها آخر كل شهر، ولا تكفيهم إلا أياماً من الشهر، فى ظل التهاب أسعار السلع والخدمات، فعليه أن يتبنى وجهة النظر تلك فى التعامل مع كل فئات العمل فى مصر. ويقينى أن هذا المعيار لو طبق على الجميع «حيقعد كل الناس فى بيوتهم»!.

أمام الحكومة سكك أخرى، يمكن أن تساهم فى حل مشاكلها المالية، بعيداً عن جيوب «شيوخ الجامعة»، ممن تجاوزوا الستين، وأريد أن أسأل من يطالبون بخفض رواتب أساتذة الجامعات انطلاقاً من الزعم بأنهم «مش شايفين شغلهم»: هل الحكومة شايفة شغلها مع رجال الأعمال الذين سلبوا ونهبوا، وما زالوا يسلبون وينهبون، منذ أيام اتخذت السلطات المعنية قراراً بمنع سليمان عامر من السفر. هكذا فقط، و«عامر» هو صاحب منتجع «السليمانية».. وما أدراك ما السليمانية؟. ثم تعال إلى قضايا الفساد فى عدد من الوزارات، وحدثنى عن قرارات منع النشر فيها، والوعود التى ترافقت معها بالضرب بيد من حديد على أيدى الفاسدين. لم نر ضرباً حتى الآن إلا على الأيادى الواهنة لفئات اجتماعية عديدة، من بينها شيوخ الأساتذة الذين أعطوا الجامعة فى شبابهم، وتريد الحكومة أن تستذلهم فى كبرهم. يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا»، وكان عمر بن الخطاب يسير يوماً فى الطريق، فرأى رجلاً يتسول، فقال له مالك يا شيخ؟ فقال الرجل: أنا يهودى وأتسول لأدفع الجزية، فقال عمر: والله ما أنصفناك نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً»!. إننى أنتظر تدخلاً عاجلاً من الرئيس عبدالفتاح السيسى للبحث فى هذا الأمر، وتصحيح مثل هذا الوضع المعوج!. فليس من المنطقى ولا المعقول ولا المقبول أن تفرض الحكومة «الجزية» على شيوخ الأساتذة، فى وقت هم أحوج فيه إلى زيادة مرتباتهم، فليس ذلك والله بالضبط ولا بالربط ولا بالقضاء، لأن هؤلاء لا يملكون «مالاً» ولا «أعمالاً».. تغيير «قِبلة» جمع الأموال أصبح فرض عين على السلطة، وإلا سينظر إليها الشعب بعين أخرى لن تحتملها!.

* كاتب المقال

د محمود خليل

جريدة الوطن المصرية