الإثنين 18 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

ختامها مُر.. عندما دفنت "قلبي" بيدي

الجمعة 16/فبراير/2024 - 04:42 ص

اللقاء الأخير.. تحول لبرواز سكن مخيلتي، أناس ينتشرون في أرجاء اللوحة البائسة. تنكّرت في "رداء أسود"، إطار خشبي تختبئ بداخله طفلة مكلومة لم تعد تبصر طريق سعادتها بعد فقدان والدها إلا بعينيّ الذكريات.

 

طفلة في ربيع عمرها، تضع يديها على قلبها مخافة أن يطوي " كتاب العمر" الصفحة على عزيز. طفلة تكره اللعنات وتمقتها، باتت تلعن القدر والمجهول والموت.

 

“ست نبتي”.. إله العواصف والعنف والشر عند المصريين القدماء، يغزل من ليالي الشتاء الحزينة ثوبًا أسود كئيبا، صوته أجشّ يخفي نحيبًا كحشرجة عجوز ينازع الموت.

رجوت ذاك الشرير بنظرات الرأفة، فأشاح بوجهه العبوس عني ومضى، وكأنني سفاحةٌ قتلت فلذة كبده أو كبّلته وألقته وسط النيران دون رحمة.

مع والدى شريك العمر 

أصبحت أنا وليالي الشتاء الحزينة عدوتين لدودتين.

 

فجر الجمعة، التاسع والعشرين من ديسمبر العام المنقضي.. دقت "الشتاء" طبول الحرب، وكتبت سيناريو هو الأكثر بشاعة في المعارك جميعها التي عهدتها الكرة الأرضية منذ انفجار الكون.

 

نفذ "الشتاء" بحقي جريمة إنسانية شنعاء، واستهدف قلعتي وحصني الوحيد الذي أتحامى به في مواجهة سوءات الحياة.

عندما اغتال الشتاء "والدي".. مصيبة بأجرين، وألم بضعفين، وأرقٌ لا يعادلهُ ليالي أرقِ العمر كلّه.

"الشتاء والقدر والموت"، شكلوا تحالف الشر، واستخدموا سلاح "الجبروت" للقضاء تمامًا عليّ.

 

قتلوا "والدي" وهو يختبئ في حضني.. قتلوه دون شفقة أو رحمة.

أرجعت تلك اللحظة الحزينة مشهد اغتيال الطفل الفلسطيني "محمد الدرة"، إلى أذهاني، نعم لست ابنته، هو ابني وأنا أمه.

شيّعت والدي إلى مثواه الأخير إلى جوار ربه، التفّت روحي بكفنه الأبيض الزاهي، وخلعتُ قلبي ووضعته بجواره في القبر كي يستأنس بنبضاته ولا يشعر بالوحدة.

 

ألبوم الصور القديم.. لم تعد ثمّةَ وسيلة لاستيعاب خبر وفاة والدي سوى تلك الأرواح المتجسّدة على لوحة صغيرة تحاكي تفاصيلها حياة من كانوا يسكنونها.

وحدها الجدران احتوت حرقة آهات بكائي، وتحوّلت الوسائد إلى صديق يضمّد الجراح ويمتصّ شلالا من الدموع، أبى أن يجف خوفًا من اتهامه بخيانة شريك العمر.

 

هاتفٌ يعجّ برسائل المواساة، تحول إلى فقاعة، ما أن تكاد أصابعي تلمسها حتى تنفجر في وجهي همًا وكمدًا وأنينًا.

فقدٌ ليس كأي فقد، بل مصيبة لا يضمد وجعها الوقت، ولا يطبّب ألمها "الطبطبة"، ولا تُخمد نيرانها سيلُ الدموع المتدفق كبحر هائج.

تركة ثقيلة.. تركها والدي من الذكريات الجميلة واللحظات الحانية، والمُتعبة، ورسالة طويلة من الأسى والنكران واللوم، “لو أني……. لما رحل"، كما لو كنت "سليمان" باستطاعتي تسخير الجنّ والملائكة، فآمر "عزرائيل" بألا يقترب من "فلذات أكبادي" ما حييت، فيخرّ ملك الموت أمامي راكعًا “سمعًا وطاعة”.

 

رسالة إلى والدي الغائب إلى أن ألتقيه يومًا أرجوه قريبًا، رحلتَ وتركت داخلي ندبة كهزيمة.. خيبة كفشل.. خذلانًا كصفعة على وجه طفل جاء محتميًا بأمه خوفًا من "قطة".. حسرة أتناولها على طبق من الرضا.

والدي.. رحلت تاركًا بروحي صندوقًا متخمًا بالذكريات، أحارب عتمة غيابك بشعاع ضوء خافت.. ضوء عينيك الذي لن يفارقني.

والدي.. "سنبلة الخير التي سقطت".. علّ ما يصبّرني على فراقك، قول الله عز وجل في سورة الطور "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا".