تاريخي الناصع مع التكنولوجياء
بيني وبين هذه الكلمة (التكنولوجيا ) من الكراهية والعداء والتربص والشك والحذر والتخوف، أشد بكثير مما كان بين قبيلتي عبس وذبيان في الجاهلية، فأنا بطبيعتي، ولأسباب اجتماعية وفلسفية، أعادي التطور، وأتجنبه، وأبغضه، وأحب الهدوء والراحة.
وحين كنا طلابا في السنة الثالثة بكلية التربية العريقة بأسيوط فوجئت بمادة مقررة علينا اسمها " الوسائل التعليمية "، !!
وسألت زملائي الذين يحضرون " كل" المحاضرات، ما عسى أن تكون هذه المادة ؟
ومن الذي يحاضر فيها؟
وما معنى أن لها دروسا عملية ؟
كانوا يسمونها اسما غريبا:.... " السكاشن !! "
حتى ذلك الحين... وعمري يقترب من السنة الحادية والعشرين، كان كل ما يربطني بالمخترعات جهاز راديو صغير في حجم علبة الدخان له مفتاحان: أون on، وأوف off
وحتى وقتنا الحاضر، كل ما يربطني بالدنيا وبالتقنيات هما تانك الكلمتان: الأون والأوف.
وشيئا فشيئا، تقدمنا في الدراسة، وأنا بطبيعتي لا أحضر إلا دروس النحو والصرف والبلاغة والأدب والنقد والتاريخ والفلسفة وقليلا جدا من تاريخ التربية وتاريخ التعليم،
أما المناهج وتلك الوسائل التعليمية وعلم النفس التربوي ( وكان له معامل أيضا بها تجارب والعياذ بالله !! ) فكل ذلك لم أكن أحضره ولا أشتري مذكراته، وأكتفي بمذاكرته ليلة امتحانه مع جار كريم لي بالمدينة الجامعية.
ثم... وقعت واقعة !!
قيل لي إن هذا العام فيه درجات عملية وامتحانات عملية وحضور ضروري لنلك الامتحانات وإلا فلا نجاح ولا انتقال من السنة الثالثة إلى الرابعة !
وتوكلت على الحي القيوم، وقرأتُ ما أحفظ من القرآن، ووعدتُ جميع أضرحة أسيوط بشموع ودموع... وذهبت خائفا متوجسا للامتحان العملي في مادة " الوسائل التعليمية " تلك.
وقد كان لتلك " الوسائل التعليمية " معمل !!
أي نعم: معمل !! كما أن للكيمياء معملا وللفيزياء معملا، ف" الوسائل التعليمية " لها معمل أيضا... !!
لكن: ما عسى أن يكون فيه ؟
سمعث من بعض زملائي عن شيء فيه غريب يسمونه ( الأبيدياسكوب !!) فاستعذت بالله العظيم من الشيطان الرجيم "وعمايله"،
وسألتهم: وأين هو هذا البلاء ؟ قالوا: أمام ذلك المعيد الذي على اليمين.
فسألتهم عن "الراديو " فقالوا هو أمام تلك المعيدة الحسناء التي على اليسار،
ومن يومها وأنا أعشق اليسار !!
ووقفت في الصف على الباب في طابور الزملاء، وكان أستاذ تلك المادة وكيل الكلية سنتئذ وهو المرحوم الدكتور نظمي حنا ميخائيل، وكان يحبني ضمن مجموعة قليلة يحبها من الطلاب المشاغبين بمجلات الحوائط التي كان يحرص جدا على قراءتها.
كان الدكتور نظمي حنا ميخائيل يجلس أمام المعمل واضعا ساقا على ساق، ممسكا سيجارته متابعا لما يدور بالداخل، وفي اللحظة التي جاء الدور فيها عليَّ للدخول، كان زميلي الذي يُمتَحن أمام ذلك المعيد الشرس العنيف ذي ( الأبيدياسكوب !!) قد خرج..
فأشار لي أستاذنا د. نظمي بالدخول لأمثل أمام ( الأبيدياسكوب !!) فاجتاحني رعبٌ رهيب حتى لقد عجزت عن الكلام، وأشرت لأستاذنا بالأصبع السبابة يمينا ويسارا علامة على رفضي الدخول،
فاندهش جدا، فأشرتُ له بإصبعي ناحية تلك المعيدة الحسناء، فأخذني بيده إلى جانبه، وأدخل الذي يقف خلفي إلى ذلك المعيد ذي ( الأبيدياسكوب !!)
فلما فرغ الذي أمام تلك المعيدة ناداها باسمها فقال لها: " خدى الولد ده مصمم ييجي يمتحن عندك !! )
فارتبكتْ قليلا، وقسمتْ نظراتها بيني وبين أستاذها البعيد عند الباب، وسألتني: أنت جاي هنا ليه ؟ قلت لها: ما أعرفش في كل اللي في معملكم ده غير " الراديو "، فالتقطت أنفاسها،
وسألتني بصوت عال: ممكن أسألك يا مصطفى عن الراديو ؟ قلت بصوت عال: أجل. سلي ما شئت.
فقالت ( وهي متفائلة ومقبلة على الحياة !! ): ممكن تقول لي يا مصطفى ازاي الموجات الحرارية بتتحول لموجات كهرومغناطيسية ؟
يخرب بيت يومك اللي مش فايت !! هي حصَّلت كده ؟
[ قلت ذلك في نفسي طبعا]
قلت لها بهمس رومانسي خافت: يا أستاذة أنا ما أعرفش في الراديو غير أون وأوف. ما تفضحينيش سايق على أهلك النبي.
قاومت الأستاذة الفضلى الضحك بصعوبة شديدة، ثم أجابت بصوت عال جدا يسمعه د. نظمي بوضوح: آه. يعني أنت تقصد أن الموجات اللي واللي واللي واللي... واشتغلت !!
وأنا أتمتم:
نعم...أجل...بلى...حبذا..
أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن
وهو وهي وهما وهم وهن...!! وهؤلاء !!
ونجحت !!
وأخدت جيد جدا في هذه المادة !!
وأنا حتى هذه اللحظة - من غير أيمان طلاق تلاتة - ما زلت لا أعرف ما عسى أن يكون هذا ال ( الأبيدياسكوب !!)
ومازال كل ما يربطني بالمخترعات جهاز راديو صغير في حجم علبة الدخان له مفتاحان: أون on، وأوف off / وفي كل شقة أملكها في أي بلد راديو من هذا النوع. !!
كانت "أيااااااااااااااااااااااااااااااااااام " !!!