الألغاز النحوية
الألغاز النحوية باب من أبواب تراثنا القديم طريف ممتع، عُني به أئمة اللغة الكبار من النحاة والبلاغيين، حتى كثر التصنيف فيه وأفردت له مؤلفات خاصة، جمع فيها مصنفوها أفانين شتى من هذا اللون الشائق من ألوان البحث اللغوي، وتباروا في النسج على منواله، وحل ما فيه من إشكالات لفظية أو معنوية. والمتصفح لهذا التراث يجد بغيته منه تحت عناوين شتى منها "الألغاز" و"الأحاجي" و"المعمَّيات" و"الملاحن" ومع ما بين هذه العناوين من فروق دقيقة تناولها الدارسون، يبقى أنها تجتمع جميعًا في أنها تمثل تحديًا لعقلية السامع، واستفزاز قدراته العقلية، وامتحان مهاراته اللغوية.
وقد حاول بعض السلف أن يحددوا القيمة البلاغية للألغاز فقد ذكر ابن الأثير في المثل السائر أن اللغز "إنما وضع واستعمل لأنه مما يشحذ القريحة، ويحد الخاطر، لأنه يشتمل على معان دقيقة يُحتاج في استخراجها إلى توقد الذهن، والسلوك في معارج خفية من الفكر …"، أي أن الوظيفة الحقيقية للألغاز تستهدف تنمية القدرات العقلية والملكة اللغوية، فضلًا عن وظيفتها الترفيهية المتمثلة في الإمتاع.
ولعل هذا المنظور نشأ مع نشأة الألغاز التي قُصد منها في بداية ظهورها تحدى عقلية المستمع وحفز تفكيره لمحاولة حل اللغز وبيان ما فيه من غرابة، وكانوا يتسامرون بهذه الألغاز كقول بعضهم عن النار:
وآكلة بغير فم وبطن....... لها الأشجار والحيوانُ قوتُ
إذا أطعمتها انتعشتْ وعاشتْ....... وإن أسقيتها ماءً تموتُ
ووجه الغرابة في هذا اللغز، يظهر من المفارقة بين الأكل والشرب، فهذه الآكلة المسؤول عنها، إذا شربت تموت. وهذا أمر مخالف لطبيعة كل المخلوقات الآكلة.
وهناك نوع آخر من الألغاز يعتمد على البناء اللغوي للكلمة التي هلى حل اللغز، كما في قول الشاعر:
حروفه محدودة خمسةً...... إذا مضى حرفٌ تبقّى ثمانْ!
أي أن الشئ المجهول المسؤول عنه يتألف من خمسة حروف، إذا ضاع منها حرف بقى ثمانية حروف، فوجه الغرابة في اللغز أن المتبقي يجب أن يكون أربعة أحرف. ولكن المفارقة تأتي من استعمال كلمة (ثمان) فإنك إذا سبقتها بحرف واحد وهو العين صارت (عثمان) وهو حل اللغز المطلوب.
وهناك نوع آخر من الألغاز يصعب الاهتداء إلى حله بطريق الحدس والحزر وحسن التقدير، فهذا شاعر يتحدث عن ضرسه الذي يأكل به ويعتمد عليه في طعامه، فهذا الضرس يخدمه طوال عمره من غير أن يراه، فإذا خلعه وألقى به فلن يلتقيا بعد ذلك. يقول هذا الشاعر ملغزًا في ضرسه.
وصاحب لا أمل الدهر صحبته...... يشقى لنفعي ويسعى سعى مجتهد
ما إن رأيت له شخصا، ومذ وقعت.......... عيني عليه، افترقنا فرقة الأبد
ومثل هذا النوع من الألغاز، لا يدرك حله عن طريق البناء اللغوي، وإنما يُدرك حله عن طريق البحث العقلي عن وجه المفارقة والغرابة.
اللغز والتعقيد اللغوي:
وقد بلغت عناية القدماء بالألغاز أن عدوها صناعة لغوية رأوا فيها مجالا لقدح زناد العقول، وتدريب الأفهام على إدراك تراكيب اللغة المعقدة، وكشف العلاقات بين تلك التراكيب. والمثال التالي من هذا النوع، فالشاعر في هذا البيت يصف حاله وهو في معركة ومعه صديقاه خالد وعمرو، فلما تكاثر عليه الأعداء وبلغت السيوف أنيابه،أمر صديقه عمرًا أن يلحق بخالد، فهو يقول:
أقول: لِِ خالدًا يا عمرو، لّما....... عَلَتْ نابي السيوفُ المرهفاتُ
واللام المكسورة (لِ) ليست حرف جر، بل هي فعل أمر من الفعل (وَلِي – يلي) مبني علي حذف حرف العلة، مثله مثل كل أفعال الأمر التي تجئ على حرف واحد مثل "قِ" من الوقاية، ومثل "فِ" من الوفاء، وما شابههما. و"خالدًا" مفعول به أي: الحق يا عمرو خالدًا.
والملغزون القدامى يعتمدون على المغالطة الصوتية فينطقون البيت نطقا سليمًا، ولكنهم من باب الإلغاز والتعمية يكتبونه كما ينطقونه فتظهر كتابته هكذا:
أقول لخالدًا ياعمرو، لما....... علتنا بالسيوفُ المرهفاتُ
والباء المسكورة الملحقة بكلمة "السيوف" ليست حرف جر، بل هي جزء من كلمة "نابي" [أي: مفرد أنيابي] ومعنى البيت "لما اشتدت الحرب حتى علت سيوف الأعداء وجهي وكادت تبلغ نابي قلت لعمرو: تولّ خالدا والحق به" وقد ظهرت الغرابة في وجود كلمتين إحداهما منصوبة بعد حرف الجر، والأخرى مرفوعة بعد حرف الجر.
في حين أن اللام والباء هنا ليسا حرفي جر، وإنما هو التلاعب والتعقيد اللغوي المقصود.
ومن هذا النوع المعتمد على التعقيد اللغوي ما يكون فيه الخداع قائمًا على الأداء الصوتي فقط دون الكتابين كما في قول الشاعر:
لقد طاف عبدَ الله بالبيتَ سبعةً....... وحج من الناسُ الكرامُ الأفاضلُ
فالمفارقة هنا تظهر من مجئ كلمة (عبد الله) منصوبة بالفتحة مع أنها فاعل حكمه الرفع بالضمة، ومن مجئ كلمة (البيت) منصوبة بالفتحة مع وقوعها بعد حرف الجر (الباء)، وكذلك مجئ كلمة (الناس) مرفوعة مع وقوعها بعد حرف الجر (من)، وحل هذا اللغز أن في المواطن الثلاثة مدًا صوتيًا قصيرًا وأصل البيت هو:
لقد طاف عبدا الله بي البيتَ سبعةً........ وحجَّ منى الناسُ الكرامُ الأفضلُ
أي أن للشاعر صديقين من عباد الله طافا به البيت سبعة أشواط وقت أن كان الناس الكرام الأفاضل يحجون إلى "منى".
فكلمة (عبدا) مثنى أضيف إلى لفظ الجلالة فالتقي ساكنان فصار المدّ قصيرًا فرارًا من التقاء الساكنين لو امتد الصوت بالمد الناشئ عن ألف الاثنين. وكذلك كلمة (بي) التقى المد الناشئ عن ياء المتكلم [المبنية في محل جر بالباء] بألف الوصل أول كلمة (البيت) فامتنع المد الطويل، وهو الحال أيضا في الألف المقصورة التي تنتهي بها كلمة (منى) حين التقت بألف الوصل في أول كلمة (الناس) فصار المد قصيرًا. وهذا البيت في حال إلقائه يثير انتباه من يستمع إليه وقد يستغرق وقتا طويلا في تفسير ما يسمع.
مم يتكون اللغز؟:
يتكون اللغز عادة من عدد من العناصر تتآلف فيما بينها بهدف تحقيق المفارقة التي تحير فهم السامع أو القارئ، وتستثير اهتمامه، ومن خلال استعراض الكتب القديمة التي جمعت ألوانًا من الألغاز، وحلولها، يمكن استنباط المكونات الأساسية للغز وهي:
1- المكوَّن البلاغي:
وذلك حين يعتمد اللغز على فن من فنون البلاغة مثل الكناية أو الاستعارة أو الاشتراك اللفظي، أو الجناس، أو التورية، ومن هذا اللون ما رواه العسكري من أن الرشيد سأل أهل مجلسه عن قول الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة مُحْرِمًَا......ودعا فلم أر مثله مخذولًا
فقال: أي إحرام هذا؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج، فقال الأصمعي: والله ما أحرم ولا قصد الشاعر هذا، ولو قلت أحرم: أي دخل في الشهر الحرام كما يقال أشهر:
أي دخل في الشهر لكان أشبه [أي أقرب إلى الصواب]. فقال الكسائي: فما أراد الشاعر بالإحرام؟ قال الأصمعي: كل من لم يفعل شيئًا يستحق به العقوبة فهو مُحرم. كما قال عدي بن زيد:
قتلوا كسرى بليلٍ محرمًا
فتولى لم يمتَّع بكَفَنْ
فهذا اللغز إذًا يعتمد على مكون بلاغي أساسه الاشتراك اللفظي لأن لفظ (محرم) له ثلاث معانٍ كما رأينا: من لم يذنب ذنبًا يعاقب عليه، ومن دخل في أحد الأشهر الحرم، ومن أحرم بالحج.
2- المكوِّن اللغوي:
وإذا كان المكون البلاغي يعتمد على فنون البلاغة، وهي متعددة، من جناس وتورية واستعارة، ولها جمالها الأخاذ، وبريقها الساحر، وبناؤها المستفز للعقول، فإن هناك لونًا آخر من الألغاز يعتمد على مكون لغوي قوامه ما في اللغة ذاتها من ثراء يتمثل في ظواهر متعددة كالاستقاق والنحت والإضمار والحذف وغير ذلك. فمن ذلك ما رواه الحريري في مقاماته ونص اللغز:
- أين تدخل السين فتعزل العامل من غير أن تجامل؟ وجوابه أنها السين التي تدخل على الفعل المضارع المسبوق بأن الناصبة فتعزل (أن) عن عملها لا تنصب الفعل بل تتحول إلى (أنّ) مخففة كما في قوله تعالى: { علم أن سيكون منكم مرضى } [المزمل: 20] أي أنه علم أنه سيكون منكم مرضى، فصارت (أن) هناك مخففة من الثقيلة وعزلتها السين عن عملها الأصلي وهو النصب.
3- المكوِّن الكتابي:
وهذا المكوِّن يعتمد على ما يسمى (التصحيف) أي تغيير شكل الكلمة كتابيًا، بطرق مختلفة كوصل مالا يوصل، أو فصل ما لا يفصل، أو إهمال وضع النقاط في موضعها، أو وضعها في غير مواضعها. وقد سبق أن مثلنا لهذا اللون من الألغاز بقول الشاعر:
أقول لخالدًا يا عمرو لما.....علتنا بالسيوف المرهفات
ومن هذا اللون الذي يعتمد على الخداع الكتابي أو التصحيف قول الشاعر:
وغلام رأيته صار كلبًا...... ثم من بعد ذاك صار غزالا
وجوابه أن المقصود هنا (صاد) من الصيد، وليس (صار) بمعنى تحول.
ومنه لغز في (الفيل) وكلمة (فيل) تتكون من ثلاثة أحرف وإن كان للفيل أربعة أرجل. هذه الكلمة (فيل) إذا صحفت – بضم الصاد وتشديد الحاء المكسورة أي تغير نقطها ونطقها- صارت فاؤها قافا فتصبح (قيل = من الفعل قال) فتكون من ثلاثة أحرف، وثلثاها كلمة (لي) وقد صاغ الشاعر هذا اللغز فقال:
ما اسم شئ تركيبه من ثلاثٍ..... وهو في أربع تعالى الإله
"قبل" تصحيفه، ولكن إذا ما....... عكسوه يصير "لي" ثلثاه
4- المكوِّن الصوتي:
وعلى العكس من المكوِّن الكتابي، فهناك المكوِّن الصوتي الذي يعتمد الإلغاز فيه على الخداع الصوتي عن طريق استخدام المد الطويل والقصير والإخفاء والإدغام، والتنوين وغير ذلك من مظاهر الأداء الصوتي.. وقد مثلنا له في البداية بقول الشاعر الذي يعتمد على الخداع الصوتي عن طريق المد القصير:
لقد طاف عبدَالله بالبيتَ سبعةً...... وحج من الناسُ الكرام الأفاضل
ومن هذا اللون الصوتي الذي يعتمد على الإدغام مثل قول الشاعر:
عافت الماء في الشتاء فقلنا....... برِّديه تصادفيه سخينًا !!
فكيف تعاف الماء في الشتاء لبرودته ثم يطلب منها أن تبرده لكي تجد ه ساخنًا؟.. والخداع الصوتي هنا جاء من إدغام كلمتين هما (بل) و(رديه) – بكسر الراء والدال –: أي (اشربي منه) فصارتا: بل رديه، وعند النطق بهما مدغمتين تصبحان كالكلمة الواحدة: برِّديه. والمعني: لا تخافي الماء ولا تعافيه. بل اقتربي واشربي فستجدينه ساخنًا.
ولكن حاذري أن تشربيه وأنت تشاهدين القناة الأولى !!