الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

ابن عربى.. الحب والمحبوب!

الإثنين 27/مارس/2023 - 01:32 ص

منذ طفولته أحاطت ابن عربى أمارات العناية الإلهية وفتوحاتها، قال: «لما كنت صغيرا، مرضت، فغُشى عليّ، بحيث كنت معدودا فى الموتى، فرأيت قوما كريهى المنظر، يريدون أذيتى، ورأيت شخصا جميلا شديدا يدافعهم عنى، حتى قهرهم، فقلت له من أنت؟ فقال أنا سورة يس أدفع عنك، فأفقت من غشيتى، وإذا بأبى عند رأسى يبكى، وهو يقرأ يس». 

 

رأى الدكتور نصر أبوزيد: أن ابن عربى ميت الجسد والروح، تذود عنه سورة من كلام الله، الله يحبه، بعثه من موتته لغاية كبيرة، ستكون بعثته من ظلمات جاهلية كان يرزح تحتها ويعيش فى كنفها، إلى أنوار صوفية عرفانية سيحاول جهده للوصول إلى درجات الكمال فيها.

أحد كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مرّ العصور

 


إنه شيخنا الأكبر– أو إن شئت، زنديقنا الأكبر- محيى الدين بن عربى محمد بن على بن محمد بن عربى الحاتمى الطائى، المولود ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 هـ – 1156 م، فى مرسيه بالأندلس، أحد كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مرّ العصور، تقلد والده مناصب مهمة فى بلاط سلطان الموحدين أبى يعقوب بن عبدالمؤمن. وذات مرة دُعى والدُه إلى حفلة عند صديق مع الأمراء والوزراء وأبنائهم وكان هو معهم. أكلوا، ثم دارت كئوس الخمر، فلما همّ محيى الدين بشرب الكأس سمع صوتا يناديه: يا محمد، أنت لم تُخلق لهذا!؛ فرماها من يده، وفرّ إلى قبر مهجور، وصار يذكر الله تعالى، أربعة أيام، فجأة أتاه فتح من المولى عز وجل، من غير جهاد، مثلما ذكر فى «الفتوحات المكية».


جاء محيى الدين فى العصر الذهبى للحضارة الإسلامية بالأندلس، عصر مأهول بالعلماء، التقى الفيلسوف ابن رشد واختلف معه،انغمس فى سباق حر نحو الشرفات العليا للإيمان، فلما ألقى من فيض ما تلقى بيانه وهداه، خشعت له قلوب ودانت له عقول، ثم طوّف فى رحاب العالم الإسلامى، كالغيث المبارك أينما حلّ هطل، فأنبت وأحيا. يظل ابن عربى، الإمام والزعيم الأكبر فى علوم الفيض والإلهام، فنون العطايا الإلهية والمعارف اللدنية والمقامات والكرامات، وبقدر ما حاز من المكانة والمعارف وقع حوله الخلاف، كان له كثيرمن المؤيدين والمريدين، ومن المُهوِّنين والقادحين.


ترك ابن عربى الجدل والخصومة فى الدنيا، لكن العواصف انطلقت هادرة فى أثره، بعدما غادرها؛ فهو القطب الإمام والعالم الفرد عند المتصوفة، وهو الزنديق المتفلسف الهاتف بالحلول ووحدة الوجود عند الماديين وبعض الفقهاء الجامدين، لكن هؤلاء وأولئك لم يختلفوا على سعة علمه، فقد عاش فى التاريخ منارة لا تطاول، وصرحا ممردا تخشع لديه العيون والأفئدة، بأسراره وإلهاماته ومعارفه، ألف أكثر من 400 كتاب، منها الفتوحات المكية وترجمان الأشواق،.. كان قمة متطلعة إلى السماء وهديها، منظارا مكبرا إلى الأفق العلوى.


عناية الله هى سر ابن عربى، دخل الخلوة فتى جاهلا وخرج منها إماما مرشدا، قبل أن ينبت شاربه، قلب زكى قابل على الدوام للتلقى والترقى، توالت عليه موارد الحق، فمد سلما إلى معارج الملأ الأعلى. قال كلمة الحق أمام سلاطين زمانه، مدافعا عن المظلومين، وتلك رسالة رجال الإيمان؛ فالحُكْم نتيجة الحِكمة، فمن لا حكمة له لا حُكْمَ له. لكن يظل الحب الإلهى أبرز ملمح فى تجربة الشيخ الأكبر، الحب مقامٌ إلهيّ، فالله هو الودود، الحب سبب وجود العالم، منائر الذكر تهتف باسم الله المحبوب، كل حب لا يفنيك عنك ولا يتغير بتغير التجلى لا يُعوَّل عليه: فقلب المحبّ ككأس الشراب الشفاف تتلوّن بحال المحبوب ولونه وتجليه عليه. وكل شهوة غير شهوة الحب لا يُعوَّل عليها وكل محبة لا يُؤْثِر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته فلا يُعوَّل عليها!.


هكذا هو الحب حنين متجدد وشوق مستمر وظمأ دائم لا حد له ولا غاية، لأنه متجدد مع الأنفاس، فالشوق لا نهاية له، لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أتم وأوفى، ولكل محب من هواه على قدر همته. الحب عند ابن عربى حب مَشَاعٌ، يشمل جميع الخلائق على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، تبدى ذلك فى فلسفته، ومقولاته العرفانية، فى كتبه وأشعاره:


لـقد صارَ قلـبى قابلًا كلَ صُـورةٍ/ 
فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ/ 
وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديــن بديــن الحب أنى توجـــهـت/ 
ركــائبه فالحـب دينـى وإيماني
كان يردد دوما لن تبلغ من الدين شيئا، حتى توقر جميع الخلائق، منوها بأن الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين.

 

من هذه الزاوية يمثل محيى الدين بن عربى همزة الوصل بين التراث العالمى والتراث الإسلامى الذى كان معروفًا ومتداولا فى عصره، سواء كان تراثًا دينيا، أو فلسفيًا فكريا، استعاد ابن عربى، التاريخ الدينيِّ كاملًا وصاغه فى جغرافيا كونية روحانية واحدة، يحتل فيها كلُّ نبيٍّ من أنبياء البشرية موقعَه الوجوديّ الذى لا يملؤه سواه، ويتجلَّى فى كمال إنسانيّ هو لبنة ضرورية فى جدار الكمال، ويبقى أبد الدهر حقيقةً روحيةً محوريةً للسالكين والواصلين، ما يجعل من تجربته الثرية مصدر إلهام لعالم مكفهر عابس، يفيض بمشكلات من كل صنف ولون!