الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
ساهمت الثورة الصناعية الرابعة وبقوة في ولوج التحول الرقمي بوتيرة تسابقت فيها الرقمنة Digitization)) مع فرص تطبيقها (Chances)، لدرجة أن الانسان تلقى هذه الثورة بمزيد من التقبل الذي افتقر إلى الوعي الكامل بتجلياتها، ولكنه أدرك أهميتها وأنها تحقق له وجودا يتسم بسهولة التفاعل وجودة العوائد المؤسسة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وسيطرة الآلة على أنشطة العمل وأداء المهام وتحقيق انتاجية أكبر بكثير مما كان متوقعا أو يتم تحقيقه !!!
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وهذا ما نلحظه عند مراجعة الواقع، والذي يؤشر إلى انطلاق الثورة الصناعية الرابعة والتي بزغت منذ عام 2016 م، حيث ظهر المصطلح على لسان "كلاوس شواب" رئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum (WEF)، حيث انطلقت هذه الثورة من الإنجازات الكبيرة التي حققتها الثورة الصناعية الثالثة، خاصة شبكة الإنترنت وطاقة المعالجة (Processing) الهائلة، والقدرة على تخزين المعلومات، والإمكانات غير المحدودة للوصول إلى المعرفة، وهذه الإنجازات فتحت الأبواب أمام احتمالات لامحدودة من خلال الاختراقات الكبيرة لتكنولوجيات ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء Internet Of Things (IOT)، والمركبات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والطائرات المسيرة (Drones) والحوسبة السحابية وتحليل البيانات الكبيرة أو العملاقة (Big Data Analysis)، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم المواد، والحوسبة الكمومية، وسلسلة الكتل (Block chain)، وغيرها.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وفي ضوء غلبة التقنيات الحديثة على الثورة الصناعية الرابعة، فإنها تلعب دورا خطيرا في أداء المنظمات وتخطيط استراتيجيات العمل المقرونة بها، من خلال تبني الأنظمة الذكية سعيا لتحقيق التميز في الأداء بدعم التحول الرقمي وتطبيقاته الكثيرة والابداعية، والتي تعد في جوهرها تميزا في مخرجات العقل البشري في إطار تكنولوجي الكتروني رقمي غير مسبوق...!
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
لقد فرضت الثورة الصناعية الرابعة واقعا جعل العالم كله يتسم بخصائص وقسمات فريدة ولم تكن مدركة من ذي قبل، فالمنظمات تميل لأتمتة المهام والوظائف الخاصة بها، واعتماد الواقع المعزز الذي تؤدى من خلاله المهام بآلية التشغيل الذاتي، باستخدام التطبيقات الرقمية بكافة وسائلها التي تؤدي الى العمل والانتاج دون مشقة أو تكليفات كبيرة تتعلق بها، والأفراد يميلون لتطبيقات رقمية أصبحت مميزة لسلوكهم وردود أفعالهم، يستخدمون فيها العقل الرقمي وتطبيقاته الرقمية سواء في أجهزة المحمول أو الحاسب الآلي أو المواقع الالكترونية والرقمية بكل أشكالها، وأصبحت الخصائص الانسانية في معزل كبير وتعطيل في مواجهة الروبوت وانترنت الأشياء والبلوكتشين والطباعة ثلاثية الأبعاد....الخ.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وتدل شواهد الثورة الصناعية الرابعة، أنها تفرض طرقا واستراتيجيات جديدة تماما، بحيث تصبح التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع وحتى من أجسامنا البشرية كأفراد، مثل:
- المدن الذكية وارتباط حركة الفرد والمجتمع بالشبكة وتكنولوجيا الفضاء الخارجي.
- تقنيات التعديل الجيني.
- التعلم المتعمق للآلة والأشكال الجديدة للذكاء الاصطناعي.
- مقاربات جديدة للحوكمة تعتمد على طرق تشفير مبتكرة مثل سلسلة الكتل (Blockchain).
-اندماج أكبر للخيارات الفردية والجماعية للناس، بحيث:
* لن تكون خيارات الباحثين والمصممين والمخترعين هي فقط ما يطور التقنيات الجديدة.
* يصبح المستثمرون والمستهلكون والمواطنون الذين يتبنون ويستخدمون هذه التقنيات في الحياة اليومية شركاء في صنعها وتطويرها.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وتؤكد الدراسات الحديثة على أن نحو 65٪ من الأطفال الذين بدأوا تعليمهم الآن في المدرسة الابتدائية سينتهي بهم الأمر بمهن ووظائف غير موجودة بعد، وبالإضافة إلى ذلك، فإن أكثر من نصف الوظائف الحالية سيكون لديها إمكانية التشغيل الآلي بدون عمالة بشرية، في ذات الوقت مستقبلًا، وحينها سيكون هناك رد فعل يمكن أن ينبئ بملامح ثورة جديدة!
وفي هذا السياق تشير بعض الكتابات والتقارير والرؤى الى أن التأثيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة على الانسان ونمط تفاعله، تميزت بأنها كانت قاسية جدا، كون الانسان أصبح مطبقا للرقمية وتطبيقاتها، وأنها أصبحت المرجعية في الحكم على الأمور وفي تغليب القيم الصناعية والأداء المجرد من خلال الآلة على الأداء الانساني الذي تحكمه القيم الانسانية والمعنوية، والتي تجعل للإنسانية قيمة كبيرة في التقرير والحكم والقدرة على اتخاذ القرار والتفكير الذي يميز الانسان بحكم وظيفته الوجودية التي تقدر العقل والإرادة باعتبارهما المحددتين للوجود الانساني في أسمى معانيه...!
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وفي هذا الإطار ظهر مصطلح الثورة الصناعية الخامسة، والتي تستهدف دمج البشر والتكنولوجيا بعناية، مما يضمن أن كلاهما يعمل معًا بشكل وثيق، وأن يزود كل منهما الآخر بفوائد لا حصر لها. وقد تم ذكر في أحد مؤتمرات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس أن المعادلة المستقبلية ستكون:
(تقنية الذكاء الاصطناعي + تقنية البلوكتشين + البشر = نتائج سحرية ضخمة)
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
حيث سيساعد الذكاء الاصطناعي في زيادة إنتاجية العمل البشري، وستساعد تقنية البلوكتشين في منح الوصول إلى الخدمات المصرفية بدرجة أعلى من الأمان، وسوف تساعد الروبوتات البشر في مواءمة عوائد الاستثمار (ROI) مع الأهداف المرجوة، لكن كافة تلك التقنيات ستتطلب الوضوح والشفافية، وإتباع سياسات الأخلاقيات المطلوبة، في كافة المعاملات والإجراءات المتخذة.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
لكن... ولوجود أزمة ثقة حالية في التكنولوجيا، عند الكثيرين، فسوف تهدف الثورة الصناعية الخامسة إلى استعادة تلك الثقة، وضمان استخدام التكنولوجيا لصالح العالم، وليس فقط من أجل الربح، فالخوف من أن تحل التكنولوجيا محل البشر في القوى العاملة، هو الهاجس الذي تهدف الثورة الصناعية الخامسة إلى القضاء عليه من خلال إعادة البشر إلى العمل، عبر وظائف جديدة يتم خلقها، استبدالًا لتلك التي شغلتها التكنولوجيا، وبدلًا من التساؤل عن كيفية تحسين الكفاءة والإنتاجية، تتساءل هذه الثورة الصناعية الخامسة عن كيف يمكن أن يتم تحسين العالم من خلال خلق فرص جديدة وتحسين جودة الحياة.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وستتيح الثورة الصناعية الخامسة تبني الإبداعات في جميع المجالات بما فيها الطبي، حيث سيكون هناك شيوع لاستخدام الأعضاء والأطراف الصناعية في العمليات الجراحية من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد، وسيكون علم الأدوية مصمما ليناسب الحمض النووي للأفراد، كما أن الأجهزة الذكية التي نضغط عليها ونتحدث من خلالها سوف تختفي وستحل محلها واجهات للتواصل بين العقل البشري والأجهزة أو الروبوتات الذكية، وستصبح المدن الذكية والمنازل الذكية والسيارات ذاتية القيادة والطاقة الخضراء من الأمور المسلم بها، وسيتمكن الجميع من العمل، بصورة معتادة، من مكان الإقامة حيث يمكن لصاحب العمل مراقبة أداء موظفيه والبقاء على اتصال متواصل معهم، من خلال تقنية الواقع المعزز.
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
و لكن وبنظرة متفحصة، يلاحظ المنظرون أن هناك إشكالية يمكن أن تتعلق بمفهوم وملامح الثورة الصناعية الخامسة، فالثورات الصناعية السابقة عليها اقترنت بوجود اختراعات أو تطبيقات (بخار أو كهرباء أو تكنولوجيا المعلومات...)، فما الذي ستتصف به الثورة الصناعية الخامسة، هل سيكون مزيد من تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة حيث تزيد العلاقة بين الإنسان والآلة، وازدياد الاعتماد على انترنت الأشياء والروبوتات والانتقال إلى عوالم افتراضية جديدة كالميتافيرس وغيرها، بالإضافة إلى بزوغ عدد من الوظائف المستحدثة والتي يطلق عليها وظائف المستقبل طبقا للتقرير الشهير الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي في 2018 بعنوان «وظائف المستقبل».
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
وفي سياق ما تقدم توقع الاقتصاديون وعلماء المستقبليات بشكل جيد الوظائف المهددة بخطر الاختفاء، لكنهم لم يكونوا كذلك بالنسبة إلى الوظائف التي ستظهر، بسب تعلق ذلك بواقع التعليم ومستقبله، الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:
-أن النظام التعليمي الحالي قائم على الاقتصاد الصناعي الذي هو حاليا آخذ بالأتمتة، وعليه أن يلحق بالتطورات الحاصلة والمرتقبة.
- "نحن لا نستطيع تعليم أولادنا أن ينافسوا الآلات"، فهم الذين اخترعوها وأبدعوا فيها.
-أن وظائف المستقبل ستكون تلك التي لا تستطيع الآلة القيام بها.
* من الممكن أتمتة العمل وأنسنة الوظائف، من خلال ثلاثة مجالات رئيسة سيبقى البشر يتغلبون فيها على الآلة في المدى المنظور، وهي:
- الشؤون الخلاقة، مثل الاكتشاف العلمي والكتابة الإبداعية وريادة الأعمال.
- العلاقات الاجتماعية التفاعلية، لأنه لن يكون للروبوتات في المدى المنظور نوع الذكاء العاطفي الذي يتمتع به البشر.
- البراعة البدنية والحركة الرياضية، فالإنسان مفطور منذ القدم على تسلق الجبال والمشي الطويل والسباحة والرقص.
- قيام النظام القديم على "حقائق تقابلها إجراءات"، أما النظـام الذي هو قيــد التشكـل حاليًا فيقوم على "إبــداع المعرفة المطابقة لاجتراح الحلول".
- تستطيع الآلات الذكية الحلول محل أساتـذة النظام التعليمي القديم إذا استمر كما هو، والمطلوب تحوله، ولن يكون الأمر سهلًا، فالكتب المدرسية والجامعية متجذرة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت عتيقة لأنها تعد التدريس مجرد إيصال المعرفة من خلال توجيهات، بدلًا من تصميمها وإبداعها.
وفي هذا السياق يقول (ألفين توفلير) في كتابه "صدمات المستقبل": "إن الأميين في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، ولكن أولئك الذين لا يستطيعون التعلم، أو لا يستطيعون التخلي عما تعلموه، أو لا يستطيعون إعادة التعلم".
الثورة الصناعية الخامسة: هل هي ترف فكري أم واقع سيفرض وجوده ؟!
ولعلنا يمكن أن ندرك أن الإنسان والعقل البشري سيكون له مكانته الغائبة مستقبلا في ظل الثورة الصناعية الخامسة والتي تعتبر رد فعل مباشر وطبيعي لغلبة الآلة والتطبيقات الذكية على مجالات الحياة البشرية، واتسام الحياة بالجفاء والتجرد والذي جعل الانسان يعيش في قالب جامد وكأنه روبوت أو ماكينة لا توجد بها حياة، وبهذا سيكون العقل البشري وإرادة الانسان وقدرته على الشعور بالسعادة وإعمال القيم الإنسانية والأخلاقية في التواصل وفي استخدام وسائل الانتاج، الكلمة الأولى في تقرير الوجود، حتى لا تكون حياة الانسان فارغة من أي مضمون يعكس معنى السعادة والشعور بحيوية الدور الذي خلق الانسان من أجله، وبإعماله لعقله وتكريسه لقيمه وتفعيله لتواصله الانساني، وتبريره لقراراته، ستكون حياته أكثر روعة وأكثر سعادة وأكثر فعالية، وبهذا يمكن أن نقول أن الثورة الصناعية الخامسة هي: الحياة الرقمية الحكيمة التي يمثل فيها الانسان القلب النابض، وتمثل فيها التطبيقات الذكية مجالات أو أبعاد لا تستقيم إلا بهذا القلب...
وللحديث بقية بإذن الله...
أ.د. محمود فوزي أحمد بدوي
أستاذ أصول التربية ووكيل الكلية لخدمة المجتمع وتنمية البيئة
كلية التربية – جامعة المنوفية