سوق العمل ومؤشرات القبول بالجامعات
- سوق العمل ومؤشرات القبول بالجامعات
لا يخالجنى شك فى أن الحكومة، ممثلة فى وزارة التعليم العالى، بذلت خلال السنوات الأخيرة جهودا لزيادة عدد التخصصات التى تحتاجها سوق العمل المحلية والإقليمية فلا يمكن أن ننكر أن التوسع فى عدد الكليات سواء بالجامعات الحكومية أو الخاصة وأخيرا الأهلية ساهم فى توفير أنماط تعليمية وتخصصات تتطلبها الوظائف الجديدة حاليا.
إلا أن الفجوة مازالت واسعة بين التعليم وسوق العمل، ومظاهر هذه الفجوة نلمسها فى وجود كليات بها أعداد كبيرة من الطلاب لا يمكن أن تستوعبها سوق العمل، فلدينا فائض كبير فى معظم الكليات المسماة بـ"النظرية"، ومصطلح “نظرية” فى حد ذاته يعبر عن تلك الفجوة، فهناك دائما مساحة بين النظرية والتطبيق، وبين معظم الكليات النظرية والواقع العملى لسوق العمل، فلا يذهب الطالب إلى الجامعة ليمضى 4 سنوات على الأقل لكى يحصل على شهادة بأنه خريج جامعى، أو تعليم عالٍ لزوم الوجاهة الاجتماعية.
فلم تعد الوجاهة بالشهادة، وإنما بالقدرات والمهارات اللازمة للالتحاق بعمل منتج يعود براتب مناسب يكفى أن يمنح خريج الجامعة فرصة الحصول على حياة مستقرة، وتحقيق أحلامه الطبيعية، دون أن يضطر للانتظار سنوات طويلة، أو يبحث عن فرصة عمل فى إحدى دول الخليج أو أوروبا لكى "يكوِّن نفسه"، ثم يعود ليتزوج، أو يتزوج ويأخذ زوجته معه، وهذه ليست قاعدة يمكن الاعتماد عليها، فالطبيعى أن يلتحق الخريج بعمل مناسب فى بلده، وأن يتزوج فى سن مناسبة بالاعتماد على نفسه وليس على أسرته، وألا يستمر فى الاعتماد على أبويه أو أى من أقاربه، وفى الدول الأجنبية يبدأ الابن فى الاعتماد على نفسه والانفصال عن الأسرة فور وصوله إلى سن 18 سنة، سواء بالعمل والدراسة معا، أو العمل والاكتفاء بالتعليم المتوسط، لأنه القاعدة الأساسية للتعليم هى العمل، أو يمكن أن يحصل على منحة أو قرض إذا أراد الالتحاق بالتعليم الجامعى، أما عندنا فإن الإعالة تستمر إلى ما بعد التخرج فى الجامعة، وغالبا يعتمد الابن على أبويه كليا أو جزئيا فى تجهيز متطلبات زواجه، أى أنه يواصل إنهاك أسرته لفترة تطول كثيرا.
المشكلة لها آثار اقتصادية خطيرة أيضا، فالكثير من الشركات لا تقبل تعيين الخريجين الجدد، لأن مديريها يعلمون أن مهاراتهم محدودة أو معدومة ويحتاجون إلى فترة تدريب قد تمتد لسنوات.
ولهذا لا يريدون أن يتحملوا تأهيل الخريج الجديد وتعليمه وإكسابه الخبرات، ويفضلون خريجا له قدرات ومهارات، فماذا سيفعل الخريج وقد أوصدت أمامه أبواب التعيين أو حتى التدريب؟ يضطر الخريج إما للالتحاق بعمل بدون أجر، ومن خلال «واسطة» ليتم قبوله كمتدرب، ينفق من جيبه، أقصد جيوب أفراد أسرته، على المواصلات والطعام والملابس وغير ذلك من النفقات لمجرد أن يتدرب، وهناك من لا يتمكنون ويجلسون على المقاهى انتظارا لفرصة ما، سواء للتدريب أو السفر إلى الخارج، وتضيع سنوات من الانتظار، يكون قد نسى ما تعلمه فى الجامعة، وكثيرا ما يدرك الذين تمكنوا من العمل أن الدراسة الجامعية شيء والعمل شيء آخر تماما، وكأن سنوات التعليم الجامعى كانت هباء، وأن عاما واحدا فى العمل أفضل من عشرة أعوام فى التعليم الجامعى، وهذا تعبير آخر على وجود تلك الفجوة الكبيرة بين التعليم وسوق العمل.
والسؤال مازال يدور حول كيفية ربط التعليم وسوق العمل؟ ورغم أن السؤال قديم إلا أنه يحتاج لإجابة شافية، ووضع دراسات جديدة وتوفير تخصصات جديدة بالإضافة إلى وجود وعى للأسرة بطريقة اختيار خريج التعليم الثانوى للكلية التى يلتحق بها، وهنا يكمن جزء مهم من سر الأزمة، فالملتحق بالكلية لا يعرف غالبا لماذا التحق بهذه الكلية بالذات، وفى الغالب أيضا تكون المصادفة اللاعب الرئيسى فى الاختيار، سواء كانت المصادفة جاءت من مكتب التنسيق أو نصيحة أحد الأقارب أو المعارف، أو أمنية للأبوين أو أحدهما، وغالبا أيضا لا يكون الخريج تعرف على تلك الكلية أو المواد أوالأقسام الموجودة فيها والمواد التى سيدرسها، ولا يعرف ماذا سيفعل بعد التخرج، وهذه مشكلة كبيرة ينبغى أن نتوقف عندها، فالآباء يفكرون فى الكلية المناسبة اجتماعيا أو لها اسم رنان أو كانت أمنية أحدهما، أما سوق العمل فلا يأتى ذكرها إلا فى حالات قليلة، بينما نجد فى الخارج، سواء فى الدول العربية أو الأجنبية فيجرى تعريف طلبة الثانوى بالجامعات، سواء بطباعة مواد مصورة عن الكليات وأقسامها، أو تنظيم رحلات، وبعض الجامعات الخاصة تهتم بنشر إعلانات، لكنها لا تكفى وحدها للتعريف بمستوى الجامعة وجودة التعليم ونوع المواد التى سيدرسها، ومدى حاجة سوق العمل لها، ولهذا فمن الضرورى أن تقوم كل جامعة، بل كل كلية بتقديم تعريف وتوزعه على طلبة الثانوى أو على الأقل من يطلب منهم، وأن يكون لها موقع على منصات التواصل، يمكن أن تعطى فكرة كافية عن نوع التعليم ومدى جودته وارتباطه بالسوق.
ثم نأتى إلى الجامعات، وكيف تحدد عدد الطلاب الذين تقبلهم فى كل كلية أو معهد، وغالبا نجد أنها تحدد العدد وفقا لمدى إقبال الطلاب، وليس وفقا لحاجة سوق العمل.
لهذا نجد على سبيل المثال أن كل جامعة افتتحت كلية للإعلام، لأن عليها إقبالا، وكثير من الطلاب وأسرهم يحلمون بأن يكون ابنهم أو ابنتهم صحفيا أو إعلاميا، يطلون عليهم من على شاشات الفضائيات، بينما فرص العمل محدودة للغاية، ولا تتحمل هذا العدد الكبير من خريجى الإعلام.
وكانت فى مصر كلية واحدة للإعلام فى جامعة القاهرة، خرجت من معطف كلية الآداب، وظلت تقبل عشرات فقط من الطلاب فى كل عام، بينما الآن لا نجد جامعة حكومية أو خاصة إلا وفيها كلية للإعلام، وزاد عدد كليات ومعاهد الإعلام على أربعين، وهذا مؤشر إضافى على تلك الفجوة بين التعليم وسوق العمل، فالجامعات لا تدرس غالبا احتياجات سوق العمل لتحدد المقبولين وفقا لاحتياجاتها، ولا تجدد المواد وفقا لحاجة وتطور تلك السوق، وهذه مشكلة كبيرة، وخطأ فادح من جانب الجامعات فى حق الطلاب وسوق العمل والاقتصاد المصرى، وعليها أن تتدارك هذا الخطأ، وأن تكون دراسة سوق العمل جادة ومتجددة، وأن تعد المواد وفقا لتطور سوق العمل، ليس فى مصر وحدها بل فى العالم أيضا، لأن العالم أصبح سوقا واحدة متداخلة، وينبغى تقييم مستوى أى جامعة بقدرتها على التواصل مع سوق العمل، وهذا التواصل يحتاج دراسة مستفيضة تحتاج مقالا آخر.