السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
منوعات

"الشدة المستنصرة" عندما أكل المصريون بعضهم من شدة الجوع

السبت 12/يونيو/2021 - 04:22 م
أرشيفية
أرشيفية

لم يعرف التاريخ المصري ولم يشهد الإنسان المصري ما هو أبشع منها، لقد كانت الشدة المستنصرية سابقة في تاريخ المحروسة لم تشهدها من قبل ولم تشهد مثلها منذ انتهاءها وحتى الآن. 

انخفض منسوب المياة وجفت الأراضي الزراعية، مات النبات وهلك الحرث والنسل، فقد الناس أعمالهم وفقدت الأموال قيمتها، شح الرزق وخابت الأماني وظن الناس أن الساعة كادت أن تقوم.

قد يظن البعض أن المستنصر كان ظالمًا، طالما حوت فترة حكمه شدة كالشدة المستنصرية فقد يكون الظلم سببًا منطقيًا لمثل هذه الشدائد، بل إنه هو السبب الذي يتبادر سريعًا إلى أذهان الناس. إلا أن المستنصر كان على العكس تمامًا، فلقد كان حاكمًا عادلًا حسن السيرة محبوب من رعيته، حيث كانت لهذه الشدة أسبابًا مختلفة عن الظلم.
المستنصر بالله
إنه أبو تميم معد المستنصر بالله الفاطمي الذي يمتد نسبه إلى الإمام علي ابن أبي طالب. وُلد المستنصر في سنة (٤٢٠ هجريًا) وقد أصبح وليًا للعهد في العام (٤٢١ هجريًا) وهو ابن الثمانية أشهر. تسلم المستنصر أمور الحكم في العام (٤٢٧ هجريا) وهو ابن السابعة. ونظرًا لحداثة سنه وتعاظم شئون الحكم عليه، أصبحت أمه واصية عليه واستبدت بزمام الحكم حتى يبلغ أشده ويستطيع أن يتولى أمور الدولة. إلا إن فترة الوصاية هذه قد طالت كثيرًا وامتدت إلى أزمان أبعد من المرجوة، فلقد كانت أمه تتدخل في شئون الحكم حتى بعد توليه أمور الدولة بشكل كامل وكان لهذا تأثيرًا عظيمًا على الدولة وكان أيضًا أحد أسباب الشدة المفزعة.
عاشت مصر في بداية عهد المستنصر في رخاء شديد وشهد الاقتصاد المصري ازدهارًا واسعًا لم تشهده منذ أزمنة بعيدة. ذَكر التاريخ أن أبواب القصر كانت مفتوحة للعامة والأدوية الموجودة داخل القصر كانت توزع على العامة بالمجان، ظل الحال هكذا حتى حدث ما لا يحمد عقباه وتعاقبت الأحداث العظام المسببة للشدة المستنصرية التي ذهبت بعظمة الدولة أدراج الرياح.
توفي المستنصر في العام (٤٨٧ هجريًا) عن عمر يناهز السبع وستون سنة بعد أن دامت فترة خلافته لفترة تجاوزت الستين سنة. رحل المستنصر بما له وما عليه تاركا لنا ذكرى شنيعة لا يذكرها المصريون إلا بكل مقت وغضب وكره وألم رَسُخ في نفوس المصريين حتى أصبحوا يتوارثوه جينيًا جيلًا بعد جيل. رحل بعد أن خُطب له من على كافة المنابر من المحيط الأطلسي غربًا إلى البحر الأحمر واليمن والحجاز وبغداد والموصل وقد كتب على خاتمه هذه العبارة الرنانة (بنصر السميع العليم ينتصر الإمام أبو تميم).
الأزمات الاقتصادية في عهده
لم تكن الشدة المستنصرية هي الأزمة الاقتصادية الأولى التي ضربت مصر في عهد المستنصر بل سبقها إحدى الأزمات الشديدة. 

كانت من التقاليد المتعارف عليها لإدارة شئون البلاد هو أن يقوم الخليفة بشراء غلة بقيمة مائة ألف دينار سنويًا حتى يستطيع أن يسيطر على الأسواق وأسعار السلع. يستطيع الخليفة بهذه المؤن المخزنة أن يواجه جشع التجار بالمنافسة ويحارب الاحتكار بوفرة الموارد لديه، وظلت هذه العادة قائمة لسنوات طويلة حتى أصبحت غير ذات جدوى لأن الأمور استقامت والأسعار أضحت بخسة وأشار عليه الوزير (أبي محمد على البازوي) بأنه لا داعي لشراء هذه الغلة. لقلة حنكة الخليفة وعدم امتلاكه لرؤية ثاقبة وبصيرة لامعة انصاع لنصائح وزيره الغشيم حتى حدث ما لم يحمد عقباه.
في العام (٤٤٤ هجريًا) أصابت الأقدار غير المحمودة مصر، حيث انخفض منسوب المياه اللازمة للزراعة بنهر النيل فشحت الغلة وارتفعت الأسعار. 

وما زاد الطين بله أن التجار قد ازداد جشعهم لاستغلال المواقف العصيبة، فلقد سارع التجار لتجويع السوق وتخزين الغلال ولم يعد هناك ملجأ سوي الغلة المخزنة في المخازن السلطانية التي لم يعد الخليفة يشتريها. 

ولكي يصلح الوزير ما قام بتخريبه قام بمصادرة القمح من مخارن التجار وأودعها في المخازن السلطانية كما قام الخليفة بالتفاوض مع ملك الروم (قسطنطين التاسع) لاستيراد اربعمائة ألف أردب من القمح لكن هذه الصفقة لم تتم بسبب وفاة الملك. ظلت الأزمة لمدة عشرين شهرًا حتى منّ الله على مصر ففاض نيلها وعادت الأوضاع إلى حالها الأول وارتوت الأراضي ونبت الزرع من جديد فأفاض الله بخيره على أهل المحروسة كعادته دائمًا.
الشدة المستنصرية العظمى
كان الفصل الثاني من الأزمات الاقتصادية في عهد المستنصر هو الأكثر بطشًا حيث أن الشدة المستنصرية قد بدأت في العام (٤٥٧ هجريًا) واستمرت لسبع سنين عجاف. 

كان سبب الشدة الرئيسي هو انخفاض منسوب المياه بنهر النيل ولكن ما جعلها أعتى أزمة مرت بها مصر هو أسبابها المتعددة والمعقدة.

كان السبب الأول هو تدخل (أم) المستنصر تدخلًا فجًا في أمور الحكم، فأصبح منصب وزير الدولة يعطى لمن تريد دون سواه وتعاقب الوزراء عليه حتى إن التاريخ يذكرنا أن الحال قد وصل في فترة من الفترات بتبديل الوزير اسبوعيًا وأحيانًا يوميًا! وهو ما أدى بالضرورة إلى عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية بالبلاد.

أما عن السبب الثاني هو الحرب التي دارت بين الجنود وبعضهم البعض، حيث أن الجيش الفاطمي يتألف من الأجناد التركية الذين تحالفوا مع جنود البربر وطردوا الأجناد السودانية من القاهرة إلى الصعيد، وحين وصل الأجناد السودانية إلى الصعيد عاثوا فيها فسادًا وعملوا على نشر الفساد وتعمدوا إفساد نظام الري لنشر القحط أكثر مما كان بسبب انخفاض منسوب المياه، أما عن الأتراك فلقد غدروا بالبرابرة وطردوهم من القاهرة إلى وجه بحري وسيطر الأتراك على القاهرة ونهبوا قصور الخليفة وأسرته وتقطعت أوصال المحروسة وانقطعت طرق نقل البضائع فبدأت المجاعة الكبري. كل هذه الأسباب بالإضافة إلى السبب الرئيسي وهو انخفاض منسوب المياه اللازمة للزراعة.
سنين عجاف
لم يعرف المصريين سنين عجاف كهذه السبعة التي أذلتهم، لم تعد هناك حياة كما يعرفها البشر فلقد فقد المصريين الغلة والقمح واللحوم وغيرها من صنوف الطعام. كانت الشدة المستنصرية ضربًا من ضروب الخيال التي يعجز العقل البشري عن تصديقها، فلقد أكل المصريين الميتات والجيف حتى أصبحت الكلاب والقطط تباع بأسعار باهظة لا يقوي عليها إلا كل ثري.

وبعد فترة ليست بكبيرة اختفت الكلاب والقطط من الشوارع، أما عن سعر رغيف الخبز فلقد بلغ خمسة عشر دينارًا وثمن البيضة الواحدة من بيض الدجاج عشرة قراريط أما رواية الماء فقد بلغت سعرها دينارًا.

قد يعجز العقل عن تصديق هذه الأهوال ولكن أصبحت الأملاك كافة غير قادرة على شراء الموارد التي أصابتها الندرة وهو مبدأ اقتصادي معروف. 

ذٌكر في التاريخ أن وزير الدولة ذهب في التحقيق في إحدى الوقائع وعندما خرج لم يجد بغلته فلقد خطفها الناس وأكلوها، أما الطامة الكبري فهي أن الناس بدأت تأكل بعضها البعض.
ولأول مرة في تاريخ المحروسة أكل المصريون بعضهم، بدأت هذه الفاجعة بعد حدوث واقعة سرقة بغلة الوزير، فلقد ألقى الوزير القبض على ثلاثة ممن أكلوا بغلته وقام بصلبهم وعند الصبيحة لم يتبق من هذه الأجساد سوي العظام حيث التهم الناس لحومهم من شدة الجوع. 

وذٌكر أن هنالك زقاق يسمي بزقاق القتل كانت المنازل فيه منخفضة فعمل سكانها على إنزال الخطاطيف يصطادون بها المارة ومن ثم أكلهم.
وصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه، فلم يعد هناك في حظيرته من الدواب شيء وباع رخام قبور آباءه وأجداده من أجل الحصول على الطعام ووصل الحال إنه أصبح مدينا بحياته لأبنة أحد الفقهاء التي اطعمته تصدُقا برغيفين يوميا. مات ثلث سكان المحروسة وبيعت بيوت ثمينة لشراء أرغفة العيش وطحنت المجاعة بالشعب أكثر وأكثر حتى وصل السيل الزبى. لم يستطع الخليفة التحمل أكثر، لذلك طلب يد العون من (بدر ابن عبد الله الجمالي) بعد أن فقد العديد من البلدان التي كانت تحت ملكه وانخفضت عدد المدن بعد أن انفصلت العشرات.
انتهاء الأزمة
انتهت الشدة المستنصرية على يد (الجمالي) الذي اشترط أن يأتي برجاله وأن يفرض سلطته وأن يعيد الأمور إلى نصابها بقوة السلاح وهو ما وافق عليه المستنصر. بعد أن عُين (الجمالي) وزيرًا للدولة عمل على إصلاح نظام الري وقنوات الري التي فسدت وبالتالي اهتم بالزراعة بعد أن قام بمحاربة الجند المتناحرة وطردهم من المحروسة. جعل المحصول كله للفلاحين أول ثلاث سنوات ثم سيجبي في السنة الرابعة.
عُرف عن (الجمالي) إنه كان رجلًا عادلًا مد يده إلى الدولة الفاطمية ونفض من فوقها تراكمات الزمن العصيب وأفاقها من كبوتها. منَّ الله أخيرًا وبعد سبع سنوات عجاف على مصر بأن فاض نهر النيل من جديد وانقشعت هذه الغمة. خلد المصريين ذكرى الوزير (الجمالي) بأن أطلقوا اسمه على أحد أشهر المناطق والأحياء الخالدة في المحروسة وهو حي (الجمالية).