حُــبّ العَـمـَـل . .فَـــــنّ !
كثير من الناس يشكُون من مشكلة "وقت الفراغ"، ويصفونها بأنها أعقد مشكلة واجهتهم أو تواجههم، وقد يكون المرء مطالباً بإنجاز بعض الأعمال فيهملها ويجلس للثرثرة مع الآخرين، شاكياً متألماً من "وقت الفراغ" الذي لا يعرف كيف يزجيه؟!.
والذين يكثرون من شكوى وقت الفراغ هم في
الحقيقة أناس ضعاف القدرات، ليست لديهم القدرة على الإبداع، فما أكثر الحيل التي يمكن
للمرء أن يقضي بها وقته مفيداً للآخرين أو مُستفيداً من الوقت الزائد عن حاجته ..
ومهما يكن نوع العمل الذي نلجأ إليه كوسيلة
لقضاء وقت الفراغ، فإنه -وإن كان بالنسبة إلينا هواية- من جهة أخرى "عمل"
أو وسيلة الحياة لأناس آخرين، فالرياضة البدنية يلجأ إليها الهُواة لتجديد نشاطهم،
وتحريك عضلاتهم، وتنشط دورتهم الدموية، ولراحة أعصابهم، فهي بالنسبة للهواء عملية مزاجية
ممتعة؛ تخفف عن هُواتها عَنَاء أعمالهم التقليدية التي غالباً ما تكون ذات طابع عقلي
كالكتابة والقراءة والعمل في دواوين الحكومة.
ولكن هذه الرياضة البدنية نفسها بالنسبة
لمزاوليها المُحترفين هي بدورها "عمل تقليدي" مملّ، مرهق، يحتاج إلى البحث
عن "هواية" أخرى تخفف من عنائه، ولتكن هذه الهواية هي القراءة مثلاً أو المسرح
أو الصيد أو التمثيل أو التجارة .. إلخ.
وأحياناً يلجأ بعض الناس إلى الرحلات وركوب
القطارات أو السفن أو وسائل النقل المختلفة، والسفر لمسافات طويلة بغرض التنزه أو الفسحة،
والمتعة في مثل هذا السفر تنبع من كون المسافر مختلياً بنفسه أو بمن يحب مرافقتهم،
متحللاً من المسؤولية الرسمية التي تأخذ بخناقه طوال وقت العمل الرسمي، ولكن هذه الرحلة
الترفيهية بالنسبة للسائقين وطاقم الخدمة في السفينة أو القطار أو الباصات أو غيرها
عذاب، ومشقة، وعمل رسمي مملّ، يتطلعون بلهفة إلى الانتهاء منه حتى يخلدوا إلى الراحة
!.
والقراءة متعة، أو هي أكبر متعة؛ لأنها
المصدر الأكثر شيوعاً للمعرفة، والإنسان الناجح يجب أن يسعى في بداية شبابه إلى تكوين
مجموعة من "الأصدقاء" الصامتين من المؤلفين فيدقق في اختيارهم كما يدقق في
اختيار أصدقائه الأحياء، ويعود إليهم في أوقات فراغه ليدير معهم حواراً من طرف واحد
ينتهي بفائدة محققة له دون شك.
وإذا نظر الإنسان إلى القراءة على أنها
"وجبة غذائية" عقلية، كان عليه أن يُحسن اختيار مفردات هذه الوجبة، فلا يُرهق
نفسه بالأغذية –الكتب- الدسمة عسيرة الهض1م، ولا يضيع وقته في النشويات التي تستقر
في (الكرش) ولا تصل إلى الدم .. وأعني بها الكتب الفارغة، الضئيلة القيمة..
وكما يتناول الإنسان وجبته الغذائية التقليدية
في جوّ من الاحترام هيئة، وجلوساً وإضاءة، وتهوية؛ يجب عليه أن يعامل وجبته الغذائية
العقلية ذات المعاملة من الاحترام، والوقار، فلا يقرأ وهو متكئ أو مستلقٍ على بطنه
أو ظهره حتى لا يرهق عينيه، وتصبح القراءة بالنسبة له عملاً شاقاً، وسرعان ما يملّه
وينفر منه، ولا ينبغي للعاقل أن يخلط بين الغثّ والسمين، فيقفز من مجلة إلى صحيفة إلى
كتاب بلا تخطيط، أو تنظيم؛ حتى لا يتشتت ذهنه، بـل عليه أن يتخير الوقت الهادئ –وليكن
الليل المتأخر- ليخلو إلى كتاب بعينه، وذهنه متفتح للاستفادة.
ومتعة القراءة قد تصبح "عملاً رسمياً"
مملاً بدوره وشاقاً، وذلك بالنسبة للباحثين والعلماء، الذين يقضون ثلاثة أرباع وقتهم
مع الكتب، فهم في أمس الحاجة إلى التخلص منها من حين لآخر، وترويض أجسادهم بالرياضات
البدنية المنشطة للدم والعضلات، حتى يعودوا مرة ثانية على عذابهم اللذيذ الممتع.
إن النظرة إلى العمل –أي عمل- على أنه
"فن" تيسّر على كل إنسان يتبنى هذه النظرة أداء عمله، إن المرأة العاملة
أو الموظفة حين تحصل على أجازة من عملها يوماً أو يومين تجد نفسها مثقلة بأعباء منزلية
أكثر جسامة من أعباء عهملها وتؤديها ببراعة وحب وألفة؛ لأنها "تتفنن" في
خدمة بيتها، ولا يمكن أن تمارس أعمالها المنزلية بشكل رتيب لا أثر فيه للفن ولا فرصة
فيه للمتعة.
وكلما استشعر الإنسان أن العمل فن، زادت
لذة العمل عنده، وأصبح مدمناً لهذه اللذة، التي تجلب إليه مزيداً من الراحة النفسية
والرزق أيضاً.
واليابانيون في هذا العصر أصدق مثال على
ذلك، فهم يقبلون على العمل بحبّ وروحٌ عالية، حتى ضجت حكوماتهم مراراً من عدم قدرتها
على خفض الإنتاج!! لأن اليابانيين لا يحصلون على أي إجازات، بل إن الحكومة لجأت –منذ
سنوات- إلى إعطاء حوافز مالية لمن يطلب أجازة دون جدوى!!.
إن العمل –أي عمل- مهما يكن بسيطاً أو معقداً
يمكن أن يكون فناً ومصدراً للمتعة أو اللذة إذا أداه صاحبه أداءً متقناً. والعمل –بوصفه
فناً- لا يبعث على الراحة النفسية فقط، بل إنه يثمر ثماراً أخرى، فهو ينقذ صاحبه من
آفات الكسل، وأهم هذه الآفات الخمول، والخُمُول بدوره يستدعي الشعور بالصداع والألام
الجسدية الأخرى، فضلاً عن أن العمل إذا ما أحبه الإنسان ينقي صدره من آفات نفسية كثيرة
كالحسد، والبغضاء، والنفاق، والرياء، وذلك لأن الإنسان إذا أحب عمله ووضع كل اهتمامه
فيه، لم يجد وقتاً للتفكير في شؤون الآخرين، ولا الاهتمام بتفاهات التافهين ..
ويتأتي ذلك بأن ينظم الإنسان وقته بحيث يستثمر ما يزيد عن ساعات عمله الرسمي، في هوايات أخرى يعطيها نفس القدر من الاهتمام، فتصبح هي بدورها مجالاً للاتقان والكسب، إلى جانب وظيفتها الأصلية وهي الترفيه، والمتعة، والحصول على اللذة..