من شجاعة اللغة العربية
مما يدخل في باب شجاعة العربية أن هناك مزايا تتفرد بها اللغة العربية ، يجيء فيها الاستخدام اللغوي مخالفاً للقياس ، ومع ذلك فإن الذوق لا ينبو عنه ، ولا يرفضه بل يستسيغه ويقبله بلا تردد . فمن هذا الباب يرد استخدام المفرد معنياً به الجمع ، أو يرد الجمع معنياً به المفرد ، وهناك ثلاثة أوضاع للمفرد الذي يطلق ويراد به الجمع هي :
1- أن يكون المفرد معرفاً .
2- أن يكون المفرد نكرة .
3- أن يكون المفرد مضافاً .
وقد ورد من ذلك في القرآن الكريم شيء كثير
، فمما جاء على الوضع الأول قوله تعالى { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فقد أطلق لفظ
" الدبر " هنا وهو معرفة وأريد به الجمع ، والمقصود ويولون الأدبار .
ومن ذلك قوله تعالى { أولئك يجزون الغرفة
بما صبروا } والمقصود الغرفات أو الغرف جمعاً لغرفة بدليل ورودها مجموعة في آيات أخرى
{ لهم غرف من فوقها غرف مبنية } .
ومن هذا النوع أيضاً قوله تعالى { وجاء
ربك والملك صفاً صفاً } والمقصود والملائكة بدليل قوله تعالى في آية أخرى { هل ينظرون
إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } . وقوله تعالى { أو الطفل الذين لم
يظهروا على عورات النساء } والمقصود الأطفال .
ومن أمثلة ما جاء على الوضع الثاني : أي
يكون اللفظ المستخدم نكرة ويقصد به الجمع قوله تعالى { إن المتقين في جنات ونهر } والمقصود
وأنهار بدليل قوله تعالى في آية أخرى وصفاً للجنة { فيها أنهار من ماء غير آسن } .
ومنه قوله تعالى { واجعلنا للمتقين إماماً
} والمقصود أئمة ، وقوله تعالى { ثم نخرجكم طفلاً } والمقصود : أطفالاً . وقوله تعالى
{ وحسن أولئك رفيقاً } بمعنى رفقاء.
ومما جاء على الوضع الثالث : أي أن يكون
اللفظ مفرداً ويقصد به الجمع قوله تعالى { إن هؤلاء ضيفي } أي : ضيوفي ، وقوله تعالى
{ أو صديقكم } عطفاً على ما ذكره من البيوت التي لا جناح على المؤمنين أن يأكلوا فيها
، والمقصود : أصدقائكم ، وقد ورد في الشعر العربي القديم استخدام المفرد مقصوداً به
الجمع فمن ذلك قول علقمة بن عبدة :
بها جيف الحسرى فأما عظامها ....فبيض وأما
جلدها فصليب
والمقصود : وأما جلودها فصليبة .
وقول عقيل بن علقمة المري :
وكان بنو فزارة شر عم .....وكنت لهم كشر
بني الأخينا
يعني كانوا شر أعمام .
وما يجوز في الألفاظ من استخدام للمفرد
معنياً به الجمع ، قد ينسحب على الضمائر كذلك . فمن ذلك قوله تعالى { ثم إنكم أيها
الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم
} فالضمير المجرور بمن في قوله { منها } عائد على شجر . والشجر – كما يقول أبو حيان
صاحب البحر المحيط – اسم جنس يؤنث ويذكر . غير أن هذا التخريج ليس كافياً لمجيء الضمير
التالي المتصل بعلى { عليه } مذكراً ، في حين جاء الضمير المتصل بمن { منها } مؤنثاً
.
ولعل ما ذهب إليه ابن عطية من أن الضمير
في { عليه } عائد على المأكول أو الأكل من أفضل التأويلات المقنعة لهذا التركيب .
ومن ورود ضمير المفرد مقصوداً به الجمع
، كذلك قوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها
جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس
} فالضمير المستتر في الفعل { تحمل } مفرد مؤنث جيء به من باب معاملة الجمع غير العاقل
معاملة المفرد المؤنث ، وهو شائع في لغة العرب فلك أن تقول : هذه الكتب ، فتستخدم اسم
الإشارة المخصص للمفرد المؤنث مع جمع غير العاقل ، وقد يستخدم اللفظ المفرد معنياً
به الجمع ثم يعود عليه ضمير الجماعة كما قلنا آنفاً ، ويكون المعنى مقبولاً سهل الإدراك
وغير قابل للتأويل كما هو الحال في آية شجر الزقوم السابقة ، فمن ذلك قوله تعالى في
معرض حكاية قصة سيدنا داود عليه السلام { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ، إذ
دخلوا على داود ففزع منهم . قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق
} فجاءت هنا كلمة الخصم بمعنى الخصوم ، وإليها يعود ضمير الجماعة " الواو
" في الأفعال التالية لها " تسوروا " ، " دخلوا " ،
" قالوا " .
وهكذا نجد أن من أبواب الاتساع والمرونة في لغة العرب التي سماها ابن جني " شجاعة العربية " أن يأتي المفرد ويراد به الجمع . كما قد يأتي الجمع ويراد به المفرد وله حديث آخر .