خطر فادح يلوح في الأفق
اشعلت تركيا حريقا في ليبيا بضوء أخضر من قوى كبرى، أمام هذا الوضع لا تجدى التصورات العتيقة نفعا مع جشع الطامعين وزعزعة الأمن القومي، ألسنة اللهب بالجوار تنذر بإحراق المنزل، فهل تلجأ مصر إلى الإقدام المحسوب وتنتقل من قوة الحق إلى قوة الردع، خاصة أن تركيا الغازية ليست قوة عظمى؟
تتطور الأحداث في ليبيا، على نحو بالغ الخطورة، سباق محموم إلى حافة الرعب، بلد المختار على مشارف التقسيم والفوضي، ذئاب مسعورة تنهش جسدها، استعاد الرئيس التركي أردوغان الحاسة الاستعمارية القديمة، واستدعى منتخب العالم للإرهاب من سوريا وغيرها إلى هناك، أرسل الأسلحة الثقيلة والطائرات المسيرة والمستشارين وأقام غرفة عمليات في معيتيقة، يدير الأتراك الحرب- تحت راية حكومة الوفاق الوهمية- ضد الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، استطاعوا انتزاع ست مدن ساحلية غرب العاصمة طرابلس.
تركيا المتعطشة بجنون للدم والنفط والغاز والسيطرة على القرار الليبي، تسكب الزيت على نار الأزمة وتواصل جرائمها، مستغلة انشغال العالم بفيروس "كورونا"، في عمق المشهد الرجراج تتبدى رغبة أردوغان العارمة لتغيير موازين القوى داخل ليبيا وفي الإقليم، خاصة تهديد الأمن القومي لمصر، وترجمة هذه التغييرات إلى صيغ حضور وتأثير. الاندفاعة التركية تؤذن بقلاقل غير محسوبة وأزمات غير متوقعة ومصائر مفتوحة تثير القلق والانزعاج، أكثر مما تبدو عليه، لاسيما أن التدخل العسكرى التركي إلى جانب حكومة الوفاق التي يسيطر عليها الإخوان، يحظى برضا إيطاليا وبريطانيا، وهو أمر يصعب تصور حدوثه، دون ضوء أخضر أمريكي- روسي، أو عدم ممانعة على الأقل.
إن عنف السلوك الأردوغاني وانتهازيته، في ليبيا وسوريا والعراق وقطر والصومال وإثيوبيا وشرق المتوسط- تملك أنقرة 28 قاعدة عسكرية بدول شرق أوسطية وإفريقية- تحمل إشارات تحذير من خطر داهم يلوح في مستقبل قريب، يحثنا على التأهب له، بالذات مع تغير البيئة الاستراتيجية في العالم مع تداعيات كورونا، والموت السريري للنظام العربي وظهور امبرياليات صغرى، وتعدد منصات الأخطار وأنماط التهديدات، في المنطقة.
إن أردوغان يصب الزيت على النار بتوظيفه ورقة المليشيات الإرهابية في قضايا الشرق الأوسط، ويفاقم الدور الوظيفي للدولة التركية- لا تختلف عن إسرائيل في ذلك- الأوضاع ويعيد رسم الخرائط لغير مصلحة شعوب المنطقة، إذ تتحول إلى بؤرة حريق عالمي. يوظف أردوغان القوة العسكرية كاستثمار اقتصادي، ويؤجج التناقضات الدينية والعرقية فوق الخرائط؛ لإنتاج الفوضى وضرب الجيوش الوطنية والدولة القومية، إنه يجني الغنائم، بكل وسائل الإكراه والإرهاب، دون أدنى اعتبار للفاتورة الباهظة التي تدفعها الشعوب من بحار الدم وجبال الخراب.
على حواف الأزمة، هناك ما يستوجب التركيز عليه، أن لمصر نصيبا وافرا من التأثيرات العنيفة الواردة؛ تجد القاهرة نفسها فى ورطة حقيقية، تواجه الإرهاب على أرضها، وليس سرا أن معظم الأسلحة التى تشهرها الجماعات المتطرفة، تسربت إلينا من ليبيا. يقولون: إن ألسنة اللهب بالجوار تنذر بإحراق البيت.
تفرض إملاءات الجغرافيا التفاعل مع الحريق الليبي، لا مجال للتخاذل أو التردد، لقد أتيح لىّ زيارة ليبيا، فى الماضى، وأدرك أن شعبها لن يستسلم للاحتلال التركي، لكن الكوابيس لم تبلغ منتهاها بعد، والضرورة تحتم اليقظة والإقدام المحسوب؛ لتسريع الحسم والوصول إلى النتيجة المبتغاة لمصلحة الليبيين أولا وشعوب المنطقة ثانيا، ولا بديل عن الاستعداد لأسوأ الاحتمالات والقدرة على سداد الثمن؛ بالانتقال من قوة الحق إلى قوة الردع. ليبيا، اليوم، مهددة بغزو جديد، والتصورات العتيقة لا تجدي مع جشع الطامعين أوروبيين وأمريكيين وروس، وأتراك باعوا ليبيا، قديما، لإيطاليا بجزيرة.
إن التدخل العسكري التركي في ليبيا- العمق الاستراتيجي لمصر ودول الجوار- أحد وجوه كابوس رهيب مقبل، حال التغاضي عنه، إنه أولى درجات سلم يطال السيادة والدور والأمن القومي؛ والقبول بالنزول على السلمة الأولى، لن ينتج إلا مزيدا من الضغوط الثقيلة التي تدفع لمزيد من النزول، إنه مخطط متعدد الحلقات والمنصات، من الغرب والشرق والجنوب والشمال؛ لقصم ظهر مصر والعرب لن يهدأ إيقاعه العنيف، وإن لم يشرع العرب جميعا، خاصة جوار ليبيا، في تنظيم أنفسهم وتجميد خلافاتهم غير المنطقية والمواجهة، فإن النتيجة ستكون كارثية على الجميع، وبرغم ذلك فإن القاهرة جاهزة لكل الاحتمالات، لو تخلف الأشقاء، مع اقتراب لحظة الحسم في ظل تبدلات البيئة الاستراتيجية وأوزان اللاعبين في النظام العالمي، واقتراب الحسم بالشرق الأوسط وإعادة صياغة جغرافيته بالقوة. ولعل ما يدعو للتفاؤل أن الليبيين لن يفرطوا في بلادهم، وأن الجيش المصري قد شهد عملية تحديث أضافت له قوة ردع ونيران هائلة تتيح مدى أكبر لقوته الضاربة؛ بمجرد تحول عقيدته من الدفاع الإيجابي إلى الهجوم النشيط، وتركيا ليست دولة عظمى!.