الجمعة 15 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

فشل كل المحاولات المعاصرة لتطوير اللغة العربية

الإثنين 16/ديسمبر/2019 - 10:16 ص


"لو ظل المختصون في اللغة يعتقدون في قدسية اللغة القديمة وأنها أزلية أبدية، فلن ينمو العقل العام ولن يتطور الفكر في مجتمعاتنا.  لذا يجب أن يشق الفكر طريقه لفتح مسارات جديدة لتطوير اللغة. إن اللغة وسيلة للتعبير عن الفكر وليست غاية، والاعتقاد بأنها غاية وأن على الفكر أن يتكيف معها هو مثل من يعتقد أن الإنسان يجب أن يحيا في مساكن القدماء! 
إن الفكر هو الذي يجب أن يحكم اللغة، ويقدم المفاهيم والتصورات الجديدة، واللغة عليها أن تتطور لتواكب المفاهيم والتصورات. وعجز المحدثين ليس فقط عن تطوير اللغة، بل عجز أيضا عن مواكبة اللغة القديمة، فعلى الرغم من دراسة النحو في مراحل التعليم قبل الجامعي، فإن الكثيرين يقعون في أخطاء جسيمة حتى في أبسط القواعد. 
هل هذا بسبب عجز منا؟ أم أننا نملك تصورات وأفكار خاطئة عن طبيعة اللغة ووظيفتها؟ أم لأننا أساسا خارج التاريخ المعاصر في العلم والثقافة؟ أم أن السبب هو حالة الانهزام الحضاري التي نعيشها؟ أم أن اللغة في شكلها القديم لم تتطور قواعدها ومفرداتها حتى تواجب طرق الحديث في العالم المعاصر؟ أم لأن المؤلفين والمدرسين -في المجمل الأعم- لا يملكون المهارات لإيصال اللغة للناس؟ أم أن السبب في ذلك هو أننا نصر على تدريس كل شيء، فتكون النتيجة لا شيء؟! 

أتصور أنها كل تلك الأسباب مجتمعة. وهذا التصور تكوّن عندي نتيجة تجربة طويلة مع اللغة وقواعدها من سن مبكرة، عندما كنت أجد نفسي مضطرا للرجوع إلى المؤلفات القديمة في النحو حتى أجد حلا لبعض معضلات اللغة، مثل (شرح ألفية ابن مالك) لابن عقيل، و(قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام الأنصاري، و(التبيان في إعراب القرآن) للعكبري وغيرها. وكنت أرجع لها ولغيرها حتى يمكنني فهم بعض آيات القرآن والتي لم يكن يشفي فضولي ويقنع عقلي ما أجد لها من تفسير عند العلماء الأحياء أو علماء التفسير القدماء في كتب التفسير الشائعة، مثل الطبري أو القرطبي أو ابن كثير أو النيسابوري أو الشوكاني أو الألوسي. كما كنت أتجول بين المكتبات شراء واستعارة للمؤلفات الحديثة لكي أجد الطريقة المثلى لإتقان اللغة، مثل النحو الوظيفي لعبد العليم ابراهيم والنحو الوافي لعباس حسن وغيرهما. 
ماذا وجدت في هذه التجربة؟ وجدت أن هذه المؤلفات الحديثة تسير في المسارات القديمة نفسها، هي فقط تحاول أن تقدم لك القديم في ثوب جديد، مثل ذلك الذي ألبس شيخا ملابس الشباب! فهل هذه الملابس سوف تحوله إلى شاب يفكر بطريقة حديثة ويعبر بلغة حديثة! 
لقد زاد من انعزال اللغة العربية أن الشعوب في حياتها العملية شكلت لغة أخري موازية منقطعة عن اللغة العربية. مما يدل على فشل كل المحاولات من أجل تطوير اللغة العربية في العصر الحديث، على الرغم من انعقاد المجامع، وكثافة المؤتمرات، واللجان المنبثقة عن اللجان، وعشرات الآلاف من البحوث والكتب والرسائل العلمية! وظل اللسان متعثرا والقلم متخبطا على الرغم من أكداس المقررات النحوية والعربية المقررة على الطلاب في التعليم! بينما من الأجدى تدريس الحد الأدنى الذي يستقيم به اللسان وتصح معه طريقة الكتابة، والتركيز على التدريب الكثير عليه والممارسة المثابرة حتى الوصول إلى مرحلة الإتقان.

والغريب أن الإصرار يزيد على الرغم من أن النتائج السلبية في أرض الواقع تكشف عن الفشل! وهذه طريقة في التفكير لا تسيطر علينا في تجديد اللغة فقط، بل في كثير من المشروعات الفكرية والاجتماعية. المنطق يقول إنك لو سرت في طريق ووجدته مسدودا، عليك أن تبحث من جديد عن طريق آخر. لكن هذا المنطق البدهي غائب، فهم يسيرون بالمنهج نفسه فيما يظنونه تجديدا، ولكنهم يفشلون في الواقع، فهل يحاولون تغيير منطقهم ويدركوا فشلهم؟ لا . إذن فماذا يفعلون؟ يصرون على الطرق القديمة نفسها ويتحسرون متعالين على الواقع والمجتمع! 
إن العقل الذي يعبر عن نفسه بلغة قديمة سوف يظل عقلا قديما، فاللغة هي صورة الفكر، ولا يمكن أن يظهر الفكر الجديد في صورة قديمة. ولذا تقف اللغة القديمة كأحد الأسوار التي تمنع تطور فكرنا تطورا طبيعيا. إن القدماء في العصر العباسي كانت لديهم الشجاعة على تطوير اللغة العربية ومواكبة تطور العلوم وتطور الحياة، ولذا صنعوا نسختهم من اللغة العربية التي تتجاوز النسخة الجاهلية، بل التي تتجاوز النسخة السابقة عليهم بقرن. ولا يستطيع أحد أن يزعم أن مفردات وأساليب العربية لم تتطور في القرون الأولى. 
إن كل ما سلف لا ينتقص من بعض الجهود المعاصرة بإطلاق، لكنها جهود مفرقة، وتنتهج مناهج شتى، سواء في المعاجم أو قواعد اللغة. وبالفعل هناك اجتهادات تستحق النظر، لكنها ظهرت وخفتت لسيطرة الفكر التقليدي، وبسبب حالة العجز والكسل العامة.  وفي كل الأحوال لم تتراكم وتتفاعل معا لتحدث تغيرا كيفيا في أرض الواقع.
فما الحل؟ وهل يمكن القيام بمبادرة جديدة تقوم على وسائل عملية قابلة للتنفيذ؟ لعل الإجابة تكون في المقال المقبل".